تعاقد الشخص مع نفسه … بين الجواز والحظر في ظل النظرية العامة للالتزام

بقلم: مريم حسين رسول

لا يُقصد بتعبير تعاقد الشخص مع نفسهفي السياق القانوني المعنى الحرفي المباشر له، المتمثل بتعاقد الشخص مع نفسه باعتباره هو صاحب الإيجاب والقبول في آنٍ واحد، كأن يقوم شخص ببيع بيت مملوك له لنفسه. فمثل هذا التصور لا يعد تصرفاً قانونياً من الأساس، إذ إنه لا ينسجم مع الطبيعة الثنائية للعقد، التي تستلزم توافر إرادتين مستقلتين، استناداً إلى المادة (73) من القانون المدني العراقي، التي عرّفت العقد على أنه اتحاد الإيجاب الصادر من أحد الطرفين مع القبول الصادر عن الطرف الآخر”.

إنما المقصود من هذا التعبير هنا، الحالات الناشئة عن عقد يُمثَّل فيه أحد الطرفين أو كليهما من قبل نائب، سواء أكان هذا التمثيل اتفاقياً (كالوكالة) أو قانونياً (كالولاية) أو قضائياً (كالوصاية). وتظهر هذه الحالة مدار البحث بشكل جلي عندما يبرم شخص عقدًا بصفته أصيلًا عن نفسه وفي ذات الوقت نائبًا عن الطرف الآخر، أو عندما يُبرم العقد من ذات الشخص باعتباره نائبًا عن طرفي العقد.

ونظرًا لما يتضمنه هذا المفهوم من دقة، كان لا بد لنا من الوقوف عنده، وبيان حالاته بشكل مفصل، ومن ثم بيان موقف المشرّع العراقي منها

أولاً: -حالات تعاقد الشخص مع نفسه

إن التسليم بفكرة إمكانية حلول إرادة النائب محل إرادة المنيب في التصرفات القانونية تؤدي إلى ظهور حالات تعاقد الشخص مع نفسه والمتمثلة بحالتين أساسيتين هما تعاقد الشخص مع نفسه باعتباره أصيلاً عن النفس ونائباً عن الطرف الاخر، وتعاقده مع نفسه باعتباره نائبا عن الطرفين وسنوضح الحالتين بالتفصيل أدناه

أ-تعاقد الشخص مع نفسه باعتباره أصيلاً عن النفس ونائباً عن الغير

تظهر هذه الحالة عندما يوكل شخص مثلا ببيع سيارة ويرغب هذا الأخير بشرائها لنفسه فيصبح ذلك الشخص الطرف الأول والثاني في العقد إذا انه يمثل الطرف الأول باعتباره وكيلاً عنه ويمثل الطرف الثاني بصفته الشخصية. ولجعل الأمور أكثر وضوحا سنقوم بطرح المثال الآتي: -

 قام (أحمد) بإبرام عقد وكالة مع صديقه (محمد) يخوله فيه بيع سيارته كونه صاحب معرض للسيارات ولديه خبرة في هذا المجال فأحمد لم يكن يرغب بأن يبيع سيارته بنفسه نظرًا لانشغاله وقلة معرفته بالسيارات. وبعد إبرام عقد الوكالة رأى محمد إن مواصفات السيارة جيدة جدا فقرر شرائها لنفسه، الأمر الذي يترتب عليه تعاقد محمد مع نفسه باعتباره وكيل عن أحمد وأصيل عن نفسه فأطراف العقد هنا ستكون

الطرف الأول

البائع محمد بموجب السلطة الممنوحة له من قبل الموكل أحمد 

الطرف الثاني

المشتري محمد

وبهذا تتحقق الحالة الأولى من حالات التعاقد مع النفس علمن أن هذه الحالة لا تقتصر على الوكالة كما ذكرنا إذ قد تشمل الولاية أو الوصاية كما لو قام ولي بشراء مال ابنه لنفسه.

ب-تعاقد الشخص مع نفسه باعتباره نائباً عن طرفي العقد

هذه الحالة تتحقق عند توكيل ذات الشخص من قبل شخصين يطلب منه الأول بيع شيء ما بينما يطلب منه الثاني شراء شيء ما، ويقوم هذا الوكيل بإبرام العقد مع نفسه باعتباره وكيلاً عن الطرف الأول والطرف الثاني في أنً واحد. وسنعطي أيضاً مثال عن هذه الحالة: -

قام (أحمد) بتوكيل صديقه (مرتضى) لبيع عقاره القانط في منطقة الوزيرية في بغداد علماً أن مرتضى يعمل في مجال السمسرة بينما وكلَ هذا الأخير شخصا آخر يدعى (محمد) لشراء عقار في منطقة الوزيرية وبموجب الوكالتين يستطيع مرتضى أن يبرم العقد بمفرده باعتباره وكيلاً عن الطرف الأول أحمد ووكيلاً عن الطرف الثاني محمد في آنً واحد، فأطراف العقد هنا ستكون: -

الطرف الأول

البائع مرتضى بموجب السلطة الممنوحة له من قبل الموكل أحمد

الطرف الثاني

المشتري مرتضى بموجب السلطة الممنوحة له من قبل الموكل محمد

وبهذا تظهر الحالة الثانية من حالات التعاقد مع النفس وكما قلنا أن الأمر غير مقتصر على الوكالة وعلى عقد البيع إنما نضرب الامثلة عليهم كونهم أكثر شيوعاً.

ثانياً: -موقف المشرع العراقي من كل حالة من حالات التعاقد مع النفس

لم يتخذ المشرع العراقي موقفا واحد في جميع حالات التعاقد مع النفس إذ وضع أحكام متباينة بتباين صور التعاقد والشخص المتعاقد مع نفسه. وعليه سنقوم بدورنا ببيان هذا الموقف بشكل تفصيلي أدناه

أ-موقف المشرع العراقي من تعاقد الشخص مع نفسه باعتباره أصيلاً عن النفس ونائباً عن الغير

سلك المشرع العراقي مسلكاً مختلفاً باختلاف الشخص المتعاقد مع نفسه فيما إذا كان وكيلاً أو ولياً أو وصياً عن الطرف الثاني. فلم يجز المشرع تعاقد الوصي أو القيم المختار من قبل المحكمة مع نفسه أي أن يقوم هذا الأخير بشراء مال القاصر أو بيع ماله لذلك القاصر؛ نتيجة لتعارض المصالح الواضح في تلك الحالة فقد يستغل الوصي أو القيم المختار من قبل المحكمة عدم إدراك القاصر لمصلحته، مما يدفعه لتقدير ثمن أقل من الثمن المتناسب مع قيمة الاشياء. وهذا الحظر نص عليه المشرع العراقي في المادة (589) من القانون المدني العراقي التي نصت على (لا يجوز للوصي المنصب أو القيم المقام من قبل المحكمة أن يبيع مال نفسه للمحجور أو أن يشتري لنفسه شيئا من مال المحجور مطلقاً سواء كان ذلك فيه خير للمحجور أم لا). ونرى تشدد المشرع بعدم السماح بمثل هكذا تصرف حتى وإن كان فيه خير للقاصر. وقد يتساءل البعض عن حكم الوصي المختار من قبل الأب إذ رأينا أن الحكم أعلاه ينطبق على الوصي والقيم المختار من قبل المحكمة، عالجت هذا الموضوع المادة (590) من القانون المدني العراقي والتي بدورها لم تجز بيع أو شراء أموال القاصر للوصي إلا في حال تحقق منفعة للقاصر وحصول على اذن من المحكمة. يعد هذا الحكم أقل تشددا من الحكم الأول المتعلق بالوصي والقيم المختار من قبل المحكمة. في حين سمح المشرع للاب الولي على أولاده القصر أن يبيع او يشتري مالاً من أموال أولاده لنفسه حتى وإن كان فيها غبن يسير المادة (588) مدني عراقي. وكان المشرع قد وضع هذا الحكم على اعتبار أن الأب لا يمكن أن يهدر مصلحة أولاده. ومن الجدير ذكره هنا إن هذه المواد قد تم تعطيلها بصدور قانون رعاية القاصرين رقم (78) لسنة (1980) الذي جعل جميع التصرفات الصادرة عن الأولياء أو الأوصياء خاضعة لموافقة دائرة رعاية القاصرين.

وبهذا نكون قد تعرفنا على موقف المشرع فيما إذا كان الشخص المتعاقد مع نفسه ولياً أو وصياً أو قيماً، الآن ماذا لو كان وكيلاً، أجابت عن هذا التساؤل المادة (592) من القانون المدني التي لم تسمح للوكلاء ومن في حكمهم شراء أموال موكليهم إلا بإذن من الطرف الآخر (الموكل) أي إن العقد في هذه الحالة يكون موقوفً لمصلحة الموكل إن شاء إجازه وإن شاء أبطله.

ب-موقف المشرع العراقي من تعاقد الشخص مع نفسه باعتباره نائباً عن طرفي العقد

لم ينظم المشرع العراقي بشكل صريح حكم حالة تعاقد الشخص مع نفسه باعتباره نائباً عن طرفي العقد، الأمر الذي أدى إلى ظهور اجتهادات فقهية لسد هذه الفجوة. والتي ذهبت في اتجاهات مختلفة فمنها من إجازة ذلك التعاقد ومنها من لم يجزه. واستند فقهاء الرأي المجيز لهذا التعاقد على فكرة السماح بالتعاملات الوساطة بالعمولة والتي تقوم على أساس وجود شخص يدعى الوسيط يقوم ببيع وشراء الأوراق المالية بين العملاء في سوق الأوراق المالية، وبمعنى أكثر تفصيلا يُكلف هذا الوسيط من قبل العملاء فمنهم من يطلب منه بيع أسهم وسندات مملوكة له ومنهم من يطلب منه شراء أسهم وسندات وهكذا يتم التعاقد مع النفس باعتبار أن الوسيط سيبرم العقد مع نفسه. فالسماح بهذه الوساطة بحسب رأيي هؤلاء الفقهاء دليل على السماح بتعاقد الشخص مع نفسه باعتباره نائبا عن الطرفين بينما رد الاتجاه الآخر الداعي لعدم جواز ذلك التعاقد على الاتجاه الأول بأن الإجازة المقررة في حالات الوساطة بالعمولة لا يمكن أن يقاس عليها باقي التصرفات خصوصا وأن الوساطة بالعمولة عادة ما لا تسبب أي ضرر للموكلين كونها محددة بسعر من قبل العملاء أي أن العميل يحدد سعر لشراء وبيع أوراقه المالية أما باقي التصرفات فلا يكون فيها عادة مثل هذا التحديد مما قد يؤدي إلى الانحياز لأحد أطراف العقد ومن عن لذلك دعى هؤلاء الفقهاء لعدم إجازة هذه التصرفات واعتبارها باطلة. وقد ذهب فقهاء آخرون إلى اعتبار العقد موقوفاً على إجازة الموكلين فإن اجازا ذلك التعاقد نفذ وأصبح صحيحا ويعد هذا الرأي راجحاً فقهاً وقضاءً.

وأخيراً نرى أن على المشرع العراقي تنظيم مسألة التعاقد مع النفس بحالتيها بشكل أكثر دقة ووضوح لما يحتله هذا الموضوع من أهمية في المحافظة على مصالح الناس وحقوقهم ووضع نصوص صريحة يبين فيها حكم الحالة الثانية من حالات التعاقد مع النفس منعاً لظهور الاجتهادات الفقهية المتعارضة.

المصادر

1-الحكيم، عبد المجيد، عبد الباقي البكري، ومحمد طه البشير، الوجيز في نظرية الالتزام في القانون المدني العراقي، الجزء الأول: مصادر الالتزام، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية، 1980.

-محمد السيد فارس، التعاقد مع النفس بين النظرية والتطبيق دراسة مقارنة، مجلة القانون والاقتصاد، كلية الحقوق جامعة القاهرة، العدد (92)، الملحق الخاص، سنة 2019،.


أحدث أقدم