بقلم: المحامي احمد عبد الرحيم محمد
تمهيد :
"لا تزال الشركات في مصر تتمتع بحصانة
فعلية من المساءلة الجنائية عن الجرائم
البيئية والاقتصادية الجسيمة، بفعل ثغرات تشريعية و
إجرائية تحول دون مساءلتها
كشخص معنوي مستقل، رغم تصاعد المخاطر الاجتماعية
والاقتصادية المرتبطة بأنشطتها."
___________________________________
أولا= الإطار التشريعي المصري وحدود المسئولية الجنائية
للشركات
1- القاعدة العامة المسئولية الجنائية
للأشخاص الطبيعيين يكرس المشرع المصري، في الأصل، مبدأ شخصية العقوبة، مقتصرا في
غالبية نصوص قانون العقوبات على مساءلة
الأشخاص الطبيعيين دون الأشخاص المعنوية، ما لم
يرد نص خاص يقرر خلاف ذلك. ويظهر هذا القصور بوضوح في قضايا الجرائم البيئية
والصناعية، حيث تغيب الآليات الفعالة لمساءلة الشركة ذاتها عن الأضرار الناتجة عن
نشاطها. فعلى سبيل المثال، لا
يوجد
نص في قانون العقوبات المصري يُقرّ صراحة مسئولية الشخص المعنوي عن
الأفعال الإجرامية الصادرة باسم أو لصالح الشركة،
باستثناء بعض القوانين الخاصة.
___________________________________
2- الاستثناءات التشريعية: نطاق ضيق للمساءلة
أجاز المشرع في بعض القوانين
الخاصة، مثل قانون سوق رأس المال رقم 95 لسنة 1992
وتعديلاته (المادة 68)، مساءلة
المسئول عن الإدارة الفعلية للشركة عن الجرائم المرتكبة
باسم الشركة أو لصالحها،
مع اعتبار أموال الشركة ضامنة للغرامات المحكوم بها. كما
نصت بعض مواد قانون
البيئة (مثل المادة 84 من القانون رقم 4 لسنة 1994) على
توقيع الغرامات على الأشخاص
الاعتباريين حال ارتكاب مخالفات بيئية. إلا أن
هذا النهج يظل استثنائيا ومحصورًا في
نطاق ضيق من الجرائم، ولا يمتد ليشمل كافة صور الجرائم
البيئية أو الصناعية أو الاقتصادية الجسيمة. وهو ما يكشف خللاً تشريعيا يستدعي
المعالجة.
- إشكالية الركن المعنوي: اشتراط القصد
الجنائي تتطلب أغلب النصوص العقابية في التشريع المصري توافر القصد الجنائي (العنصر
المعنوي) لإدانة الشركة، وهو ما يصعب
إثباته عمليًا في الجرائم الجماعية أو الناتجة عن الإهمال
المؤسسي، كما في قضايا التلوث الصناعية توزيع الأرباح الصورية (عبد الحميد، 2020،
ص 74). وقد أدى ذلك إلى إسقاط العديد من الدعاوى الجنائية ضد الشركات لعدم إمكانية
إثبات نية إجرامية
محددة لدى الإدارة أو مجلس الإدارة.
*ملحوظة :
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن القانون الجنائي
الفرنسي تبنى نهجا أكثر تطورا
عبر المادة 121-2 من القانون الجنائي الفرنسي، التي تنص
على أن
"يسأل الشخص المعنوي، باستثناء الدولة، جنائيا
عن الجرائم التي ترتكب لحسابه من قبل أجهزته أو ممثليه" (Légifrance، 2023، المادة 121-2). وهو
ما أرسى مبدأ المسؤولية الموضوعية للشخص المعنوي،
دون الحاجة لإثبات نية إجرامية لدى فرد محدد داخل الشركة،
ما يُعد نموذجا
جديرا بالاستلهام في الإصلاحات
التشريعية المصرية.
___________________________________
ثانيا= التطبيق القضائي و معضلة الإفلات من العقاب:
1- قصر المسئولية على المدير الفعلي يميل
القضاء المصري إلى تحميل المسئولية
الجنائية للمدير الفعلي أو المسئول التنفيذي عن
الإدارة، دون مساءلة الشركة كشخص
معنوي
مستقل، حتى في الحالات التي يكون فيها الضرر ناتجا عن قصور في أنظمة
الشركة أو سياساتها العامة. وتؤكد المحكمة الدستورية
العليا هذا الاتجاه معتبرة ان
العقوبة تقع علي عاتق المسئول عن الادارة الفعلية مع ضمان
اموال الشركة لسداد
الغرامات .
2-
صعوبات الإثبات في الجرائم البيئية والاقتصادية تواجه النيابة العامة والمحاكم
صعوبات كبيرة في إثبات القصد الجنائي لدى الشركة أو
مسئوليها في الجرائم البيئية،
ما
يؤدي غالبا إلى البراءة أو الاكتفاء بالغرامات المالية الهزيلة، التي لا تحقق
الردع
المطلوب ولا تتناسب مع حجم الضرر أو أرباح الشركات. ويظهر
ذلك بجلاء في قضية شركة تيتان للأسمنت – الإسكندرية (وادي القمر)، حيث أقام
الأهالي دعاوى جنائية بسبب استخدام الشركة للفحم قرب المناطق السكنية، ما تسبب في
أمراض تنفسية وتلوث بيئي جسيم. ورغم أن محكمة جنح الدخيلة
أصدرت حكما في 2018 بتغريم المدير التنفيذي للشركة، فإن
الحكم لم يمتد
إلى مساءلة الشركة كشخص معنوي، رغم ثبوت الضرر الناتج عن
سياسات تشغيل ممنهجة (المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، 2018، ص 6).
3- قصور العقوبات وعدم تناسبها مع جسامة
الفعل تقتصر العقوبات غالبا على غرامات مالية محدودة، دون مصادرة الأرباح الناتجة
عن الجريمة أو حل الشخص المعنوي
في الجرائم الجسيمة، ما يفقد العقوبة أثرها الرادع
ويحولها إلى مجرد تكلفة هامشية
ضمن نشاط الشركة.
___________________________________
ثالثًا= آليات الإصلاح التشريعي والعملي المقترحة:
اولا= تعديل النصوص التشريعية ضرورة تعديل قانون العقوبات
في ضوء غياب نص
واضح في قانون العقوبات ينظم المسئولية الجنائية للأشخاص
الاعتباريين، تبرز الحاجة
إلى
تعديل تشريعي صريح يُدخل مفهوم "المسئولية الجنائية الموضوعية" للشركات،
بحيث تتحمل الشركة المسئولية عن الجرائم الناتجة عن
الإهمال الجسيم أو التقصير
المؤسسي، دون اشتراط القصد الجنائي.
في هذا السياق، يمكن الاستفادة من التجارب المقارنة:
في فرنسا نصت منذ 1994 في المادة
121-2 من قانون العقوبات الفرنسي على إمكانية
مساءلة الأشخاص المعنوية جنائيا عن
الجرائم المرتكبة لحسابهم من قبل أجهزتهم أو
ممثليهم، حتى دون تحديد القصد الجنائي.
كما نص قانون البيئة التونسي في الفصل 94 على مسؤولية
المؤسسات الصناعية في
حالة
الإضرار بالبيئة، بغض النظر عن المسؤولية الفردية. وفي المغرب، نصت المادة 36 من
القانون الجنائي المغربي بعد تعديله على إمكانية مساءلة الشخص المعنوي و معاقبته
بالغرامة أو تدابير إضافية مثل الإغلاق أو الحل، وهو ما يوفر نموذجا تشريعيا يحتذى
به في تطوير الإطار المصري.
2. تطوير منظومة التحقيق والمحاكمة إنشاء
نيابة اقتصادية وبيئية متخصصة، تتمتع
بصلاحيات استثنائية في التحقيق والتفتيش على الشركات، بما
يتيح كشف الجرائم
الجماعية والمعقدة.
المسئولية الجنائية الموضوعية للشركات، بحيث تتحمل الشركة
المسئولية عن الجرائم
الناتجة عن الإهمال الجسيم أو التقصير المؤسسي،
دون اشتراط القصد الجنائي، أسوة
بما
هو معمول به في التشريع الفرنسي.
توسيع نطاق التجريم ليشمل كافة الجرائم البيئية والصناعية
والاقتصادية، مع النص
صراحة على مساءلة الشخص المعنوي عن الجرائم التي تقع
باسمه أو لصالحه أو نتيجة
قصور في أنظمته الداخلية.
وفي هذا الإطار، يمكن اقتراح إضافة مادة الي قانون
العقوبات المصري، تنص على ما يلي: "تسأل الشخصيات الاعتبارية جنائيا عن
الجرائم التي ترتكب باسمها أو لصالحها
من قبل ممثليها القانونيين أو من في حكمهم، متى ثبت أن
الجريمة وقعت نتيجة إخلال
جسيم
بواجبات الرقابة أو الإشراف أو التنظيم الداخلي، ولو لم يحدد الفاعل الطبيعي."
يراعى في تطبيق هذه المادة عدم الإخلال بمسؤولية الشخص
الطبيعي الفاعل، مع جواز
الحكم على الشخص الاعتباري بالغرامة، أو مصادرة العائدات
غير المشروعة، أو الوقف
المؤقت للنشاط، أو الحل في الحالات الجسيمة.
مثال توضيحي:
تبنت بعض التشريعات المقارنة، وخاصة في فرنسا ودول أمريكا
اللاتينية، مبدأ المسؤولية الجنائية الموضوعية للشخص المعنوي، والذي يعني إمكان
مساءلة الشركة جنائيا بصفة مستقلة، عن الجرائم التي تقع باسمها أو لصالحها، دون
الحاجة لإثبات نية إجرامية لدى فرد بعينه.ويستند هذا النموذج إلى العناصر الآتية:
1/ رابطة المصلحة
أن تكون الجريمة قد ارتكبت بهدف تحقيق منفعة مباشرة
للشركة، ولو جزئيا.
2/ التمثيل المؤسسي:
أن يرتكب الجريمة أحد الأشخاص الذين يمثلون الكيان
القانوني أو يتصرفون باسمه.
3/ الخلل التنظيمي:
أن يثبت وجود قصور هيكلي أو مؤسسي في الرقابة أو
الإشراف.هذا الاتجاه يسهل ملاحقة الجرائم المؤسسية التي يصعب فيها تحديد الفاعل
البشري بدقة، يمكن القضاء من فرض غرامات حقيقية، أو مصادرة أرباح غير مشروعة، أو
تعليق نشاط الشركة، وهو ما تتجه بعض الدول العربية للمحاكاة تدريجيًا، كالمغرب
وتونس في قوانين البيئة
والمالية العامة (سالم، 2016، ص 88).
_________________________________
ثانيا= تطوير منظومة التحقيق والمحاكمة إنشاء نيابة
اقتصادية وبيئية متخصصة، تتمتع بصلاحيات استثنائية في التحقيق والتفتيش على
الشركات، بما يتيح كشف الجرائم الجماعية والمعقدة.اعتماد نظام سجل جنائي موحد للشركات،
لتتبع الجرائم والمخالفات وربطها بهوية الشركة لا الأفراد فقط.
__________________
ثالثا= إصلاح نظام العقوبات ربط الغرامات المالية بنسبة
من
الأرباح السنوية للشركة، لضمان فاعلية الردع وعدم تحول
العقوبة إلى عبء مالي هامشي.إجازة مصادرة الأرباح الناتجة عن الجريمة وحل الشخص
المعنوي في الجرائم الجسيمة أو المتكررة، تحقيقا للعدالة الجنائية الردع العام.
___________________________________
وفي نهاية سرد الموضوع لا يسعنا سوي الرغبة في التعديلات
ومواكبة التغيرات
العصرية من خلال حلول موضوعية وعقوبات رادعة للمخالفات
وتفعيل قوي للقوانين
وإن استمرار القصور التشريعي الإجرائي في مساءلة الشركات
جنائيا عن الجرائم البيئية والاقتصادية الجسيمة، يُعد تهديداً مباشراً للعدالة
الجنائية للأمن الاقتصادي
والاجتماعي في مصر. والإبقاء على هذا الوضع يشجع الكيانات
الاقتصادية الكبرى على التهرب من المسئولية دون رادع، ويقوّض الثقة في النظام
القضائي. لذا فإن تبني
نموذج المسؤولية الجنائية الموضوعية للشركات، على غرار
التجارب المقارنة، لم يعد مجرد رفاهية تشريعية، بل ضرورة وطنية عاجلة لضمان حماية
البيئة والمجتمع وتحقيق الردع الحقيقي. حيث ان يتطلب الأمر تدخلا تشريعيا عاجلا
لإقرار المسئولية الموضوعية للشركات وتطوير منظومة التحقيق والعقوبات، فإن تحقيق
الردع الفعال يظل مرهونا بقدرة المشرع والقضاء على تجاوز العقبات التقليدية
والانفتاح على التجارب المقارنة الأكثر تقدما.
___________________________________
المصادر والمراجع:
Légifrance.
(2023). المادة121-2 من القانون الجنائي
الفرنسي.
القانون الجنائي المغربي، المادة 36 بعد التعديل.
القانون التونسي لحماية البيئة، الفصل 94.
المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. (2018). تقرير
"مصنع تيتان – الموت بالفحم".
عبد الحميد، م. م. (2003). المسؤولية الجنائية للمسؤولين
التنفيذيين في الشركات
التجارية: دراسة مقارنة. كلية الحقوق، جامعة القاهرة.
سالم، ر. ع. (2016). المسؤولية الجنائية للموظف الفعلي:
دراسة تطبيقية مقارنة.
مجلة
الدراسات القانونية والاقتصادية، جامعة القاهرة.
عبد
الحميد، م. م. (2020). المسؤولية الجنائية الناشئة عن توزيع الأرباح الصورية في
القطاع الخاص. مجلة حقوق حلوان.
___________________________________