القرار الإداري والعقد الإداري في القانون العام: دراسة مقارنة ما بين النظامين العراقي والفرنسي

 بقلم: روان بشار حاتم

ان التداخل ما بين  مفهومي (القرار والعقد) كثيراً ما يحدث لبساً في التكييف القانوني خاصة عندما يتعلق الأمر بتحديد طبيعة العمل، ومدى قابلية الطعن فيه، والجهة القضائية المختصة بالنظر فيه. فالقرار الإدراي يتميز بطابعه الانفرادي بينما العقد هو توافق لإرادتين وان كانت احداها ذات طابع سلطوي حيث تُثار من هنا الإشكالية المتعلقة بالفرق الجوهري بين القرار والعقد الإداري من حيث التكييف القانوني، والاثار المترتبة على كل منهما، ومدى خضوعهما للرقابة القضائية. وللإجابة عن هذه الإشكالية نعتمد المنهج التحليلي المقارن من خلال تناول المفهوم القانوني لكل منهما وبيان أوجه الشبه والاختلاف من حيث الأركان، الطبيعة والأثار القانونية.

تقوم الإدارة عند ممارستها لنشاطها بنوعين من الأعمال، الأعمال المادية وهي اعمال لا تستهدف الإدارة احداث أي إثر قانوني منها بشكل مباشر ومثلها الأعمال الفنية التي يقوم بها الموظفين بحكم وظيفتهم مثل الأعمال التي تقوم بها الإدارة تنفيذاً للقرارات الإدارية مثل هدم منزل او استيلاء على مال معين. وهذه الأعمال ان أحدثت ضرراً للغير تكون الإدارة مسؤولة بمقتضى القواعد العامة للمسؤولية.

والطائفة الأخرى من الأعمال هي الاعمال القانونية، وهي تلك الأعمال التي تقوم بها الإدارة بقصد احداث إثر قانوني معين كأنشاء مراكز قانونية او تعديلها او الغائها او ترتيب التزام. وللأعمال القانونية نوعان:

-       اعمال تقوم بها الإدارة بإرادتها المنفردة (القرار الإداري).

-       اعمال تقوم بها الإدارة بصفة مشتركة مع هيئات أخرى (العقد الإداري).

 

اولاً: القرار الإداري بين النظامين العراقي والفرنسي

القرار الإداري هو عمل قانوني تصدره الإدارة بإرادتها المنفردة لما تملكه من سلطة عامة، يصدر عن سلطة إدارية مختصة بهدف احداث إثر قانوني معين ويكون قابلاً للطعن امام جهة قضائية مختصة.

وفي فرنسا استقر مجلس الدولة منذ قراره الشهير في قضية "بلانكو" 1873 على اعتبار القرار الإداري اساساً للتمييز قواعد القانون العام عن قواعد القانون الخاص، بينما كرس قراره في قضية " cadet" 1889 مبدأ خضوع كافة القرارات الإدارية لرقابة القضاء الإداري.

اما في العراق فقد تبنى قانون مجلس الدولة رقم 65 لسنة 1979 المعدل هذا المفهوم حيث تنص المادة 7 رابعاً، على اختصاص محكمة القضاء الإداري بالنظر في الطعون المقدمة ضد القرارات الإدارية الفردية والتنظيمية مما يعكس الطبيعة القانونية المستقلة لهذه الأعمال.

 

 اركان القرار الإداري

لكي يكون القرار الإداري مشروعاً وقابلاً للنفاذ، يجب ان تتوافر فيه خمسة أركان أساسية، تتشابه ما بين النظامين العراقي والفرنسي:

      الاختصاص: وهو صلاحية رجل الإدارة إتيان عمل معين بمعنى صدور القرار من جهة إدارية مختصة أي تملك صلاحية اصدار القرار قانوناً.

فأي قرار يصدر من جهة إدارية غير مختصة يكون مشوباً بعيب عدم الاختصاص، ويقسم عيب عدم الاختصاص الى (عيب عدم الاختصاص الجسيم وعيب عدم الاختصاص العادي) والفرق الجوهري بينهما أن عيب عدم الاختصاص الجسيم (اغتصاب السلطة) يعدم القرار الإداري فيصبح من قبيل الاعمال المادية ولا يحتج به ولا تنشأ عنه حقوق. وهو في حالة صدور قرار من شخص لا يحمل صفة الموظف أو اعتداء الإدارة على اختصاص سلطة اخرى. اما عيب عدم الاختصاص العادي يقسم بدوره الى (عيب عدم الاختصاص الزماني، عدم الاختصاص المكاني، عدم الاختصاص الموضوعي).

حيث تتركز عناصر الاختصاص في أربعة عناصر ألا وهي:

1.    العنصر الشخصي: أي صدور القرار من رجل الإدارة حقيقي وأن تكون له سلطة التعبير عن إرادة الجهة التي يمثلها. والوجود القانوني لرجل الإدارة يرتبط بوجود قرار تعيين صحيح له وهذا القرار هو الذي يسبغ صفة عضو الإدارة وانتمائه الى جهة معينة.

2.    العنصر الموضوعي: ان توافر العنصر الشخصي لا يكفي لقيام ركن الاختصاص بل يجب ان يكون القرار الصادر عن رجل الإدارة داخل في موضوع اختصاصه أي من ضمن صلاحياته التي ينص عليها في الدستور او التشريعات او الأنظمة الداخلية حيث يحدد اختصاص كل شخص من أعضاء الإدارة. ومثال ذلك: صدور قرار نقل موظف الى دائرة أخرى عن المدير العام للدائرة التي يعمل فيها، حيث ان صلاحية نقل الموظفين تدخل ضمن صلاحيات المدير العام أي ضمن موضوع اختصاصه.

3.    العنصر الزماني: يرتبط هذا العنصر في زمان صدور القرار ويتطلب ان يصدر القرار عن عضو الإدارة في فترة شغله للوظيفة العامة والتي تبدأ من وقت صدور قرار التعيين او التنسيب او الندب او الوكالة، كما ان انتهاء هذه الفترة يكون بانتهاء شغل الوظيفة العامة وعليه لا يمكن لرجل الإدارة الاستمرار باتخاذ القرارات بعد انتهاء الرابطة الوظيفية. كذلك قد يتطلب صدور القرار في وقت معين ومثال ذلك: هو صدور قرارات عن لجنة مختصة بموضوع معين قبل انهاء تشكيل هذه اللجنة.

4.    العنصر المكاني: يقصد بهذا العنصر أن القانون يحدد لبعض الجهات الإدارية نطاقاً اقليمياً لا يمكن تجاوزه في ممارستهم للاختصاصات المخولين ممارستها وأفضل مثال على ذلك هو مجالس المحافظات التي تكون صلاحيتها محددة بنطاق المحافظة الإقليمي على خلاف أعضاء الإدارة المركزية الذين تمتد صلاحياتهم لتشمل جميع البلاد مثل رئيس الدولة ورئيس الوزراء والوزراء.

 

في فرنسا يعتبر عيب عدم الاختصاص من عيوب المشروعية الجوهرية وترتيب على مخالفته بطلان القرار ويعد من النظام العام كما هو في العراق حيث يمكن للمحكمة ان تثيره من تلقاء نفسها. ويطبق مجلس الدولة الفرنسي رقابة دقيقة على الاختصاص خاصة إذا تعلق الأمر بالتفويض او الحلول الإداري.

 

      الشكل والإجراءات: القرار الإداري هو عمل قانوني يجب ان يأخذ شكلاً خارجياً تفصح فيه الإدارة عن رغبتها في مضمون القرار. حيث لا يكفي صدور القرار عن جهة او شخص مختص بل يجب ان يتبع فيها قواعد معينة هي ملزمة للإدارة والا تبطل القرار ويصبح معيباً عيب بعيب الشكل أو الإجراءات. وتجد هذه القواعد مصادرها اما عن قوانين خاصة تتعلق بالإجراءات الإدارية مثل الولايات المتحدة او في مصادر القانون كالدستور والقوانين والأنظمة والتعليمات الداخلية كذلك يستخلص بعض هذه القواعد من الممارسات القضائية. وأهمية قواعد الشكل والإجراءات تتمثل في توفير ضمانة للإدارة والافراد على حد سواء.

تختلف حالات الشكل والإجراءات وهي متنوعة حسب كل نظام لكن نشير الى اهم حالاتها:

1.    الكتابة: اتخاذ القرار للشكل المكتوب هو غير ملزم الا اذا نص القانون على ذلك صراحةً او ضمناً حيث الأصل هو ان تصدر الإدارة قرارها بالشكل الذي تراه مناسباً. و في حالة صدور القرار بشكل مكتوب يجب ان يحمل توقيع الشخص الذي قام باصداره و الا كان معيباً في شكله.

2.    التسبيب: وهو ذكر او الكشف عن الأسباب الواقعية و القانونية التي دفعت الإدارة لاتخاذ القرار و الأصل ان الإدارة غير ملزمة بالتسبيب الا اذا نص القانون على ذلك و عندئذ تخضع هذه الأسباب لرقابة القضاء الإداري.

3.    النشر : يكون النشر ملزماً للإدارة في حالة اتخاذها لقرارات تنظيمية، اما القرارات الفردية فلا تُلزم الإدارة بنشرها.

4.    الاستشارة: وهي من الإجراءات السابقة على اتخاذ القرار، حيث تطلب الإدارة رأي جهة معينة متخصصة من اجل ابداء الرأي في ما اذا على الإدارة اللجوء الى اصدار هذا القرار. اما عن نسبة التزام الإدارة باللجوء الى الرأي الاستشاري ومدى التزامها به يتفاوت بحسب أنواع الاستشارة فبعض القوانين تتطلب اجراء استشارة ملزمة و في بعض الحالات تكون الاستشارة اختيارية.

5.    تشكيل اللجان: قد يلزم القانون الإدارة بتشكيل لجان مختصة بتقييم الوضع قبل اتخاذها للقرار و افضل مثال على ذلك اشتراط القانون تشكيل لجان تحقيقية قبل اصدار القرارات المتعلقة بفرض عقوبة تأديبية و عليه اذا قامت الإدارة بإصدار قرار العقوبة دون اتباع هذا الاجراء يكون القرار معيباً وذلك لان مثل هذه القرارات تمس بسمعة الموظف ومركزه الوظيفي اذ يحق له الدفاع عن نفسه ولا يمكن تصور ذلك قبل صدور القرار الا عن طريق اللجان التحقيقة.

6.    توجد كذلك قواعد إجرائية تتعلق بعمل المجالس او اللجان ومنها ضرورة توجيه دعوة الى جميع الأعضاء لحضور الجلسة كذلك التصويت بأغلبية معينة. و يؤدي اهمال مثل هذه الإجراءات الى بطلان القرار لعيب الشكل.

7.    المصادقة: تظهر هذه الصورة في النظام الإداري المركزي حيث تقوم السلطة الأعلى بالمصادقة على قرارات السلطة الأدنى، و تظهر ايضاً في النظام اللامركزي حيث لا تعد بعد قرارات السلطة اللامركزية نافذة الا بعد مصادقة السلطة المركزية عليها.

 

يميز الفقه الفرنسي ما بين الشكل الجوهري الذي يبطل القرار عند مخلفته والشكل الثانوي الذي لا يؤدي بالضرورة الى الابطال، بينما في العراق لا يعد الشكل جوهرياً و بالتالي لا يبطل القرار الا اذا نص القانون على ذلك. حيث في فرنسا توجد قاعدة شهيرة تعرف ب" لا بطلان بلا نص" الا اذا كان الشكل جوهرياً بينما في العراق غالباً ما تطبق المحاكم قاعدة " لا بطلان بدون نص صريح او ضرر" اذا لم يترتب ضرر على مخالفة الشكل لا يُبطل القرار.

 

      السبب: هو الحالة القانونية او الواقعية التي تسبق القرار و تدفع الإدارة الى اتخاذه، ولا يشترط ان يكون السبب واحداً فقد يكون مجموعة من العناصر القانونية والواقعية التي تقود الإدارة الى اتخاذ القرار، فالأسباب القانونية قد تتخذ شكل قاعدة دستورية او تشريعية او مبدأ من مبادئ القانون العامة او نظام داخلي او قرار إداري او حكم قضائي او قاعدة عرفية، اما الأسباب الواقعية فهي عديدة تتخذ اشكالاً مختلفة منها الطلب الذي يقدمه الموظف لأحالته الى التقاعد. وتوجد أسباب تمثل حالة واقعية تدفع الإدارة الى اتخاذ القرار مثل تشكل تهديد على النظام العام مما يدفع الإدارة الى اتخاذ جميع الإجراءات من اجل الحلول بين التهديد و الامن العام.

وقد يثار تساؤل يتعلق في الفرق ما بين السبب في القانون المدني والقانون الإداري، فالسبب في القانون المدني فكرة شخصية قائمة على شخصية المتصرف ومرتبطة به وتعتبر الهدف من التصرف الذي قام به فهو الدافع الباعث للتعاقد، اما السبب في القانون الإداري يتمثل في حالة خارجة عن إرادة الإدارة وتكون مبررة لاتخاذه القرار فالسبب هو مجموعة من العناصر الموضوعية القانونية و الواقعية التي يقوم عليها التصرف وتكون مستقلة عن الإرادة الذاتية لمتخذ القرار.

 

فالقرار الذي لا يستند الى سبب صحيح مثل عدم شرعية الأساس القانوني او عدم الوجود المادي للواقعة التي استندت اليها الإدارة في اصدار قرارها يصبح القرار معيباً بعيب السبب و عليه يصبح باطلاً.

ويخضع ركن السبب في النظام الفرنسي (le motif) الى رقابة قضائية مزدوجة تتمثل في التحقق من الوجود الفعلي للوقائع والتحقق من التكييف القانوني للوقائع حيث ان الأساس القاضي الإداري لا يراقب ملائمة القرار لكنه يراقب مشروعيته من حيث السبب وان كان السبب في ذاته رقابة غير مباشرة للملائمة. وفي النظام الفرنسي يصبح القرار معيباً بعيب السبب إذا:

      إذا لم يكن السبب موجوداً اصلاً.

      إذا كان السبب غير صحيح من الناحية القانونية.

      إذا كان السبب غير صحيح من الناحية المادية.

      إذا كان السبب صحيحاً لكنه لا يبرر القرار.

 

اما في النظام العراقي لركن السبب نفس جوهر النظام الفرنسي. وتمتد رقابة القضاء الإداري العراقي الى التحقق من الوجود المادي للوقائع حيث إذا تبين ان السبب غير موجود او لم يثبت يلغى القرار ونذكر قرار المحكمة رقم 32\2018 بإلغاء فصل موظف لعدم ثبوت المخالفة المنسوبة اليه. ايضاً يراقب القضاء على التحقق من صحة السبب قانونياً فاذا ثبتت الواقعة يتأكد القاضي من ان القانون يمنح الحق للإدارة اتخاذ القرار بناءاً على تلك الواقعة.

 

      المحل: هو الأثر القانوني المباشر الذي يحدثه القرار في المراكز القانونية للأفراد المخاطبين به، أي النتيجة التي يرتبها القرار مقل تعيين موظف، فرض غرامة، منح ترخيص... . 

ولكي يكون محل القرار الإداري صحيحاً يجب ان تتوافر فيه عدة شروط:

1.    المشروعية: ان يكون متوافق مع القانون بمعناه الواسع.

2.    ان يكون ممكناً لا يجوز ان يكون المحل مستحيل مادياً مثل قرار بهدم منزل مهدوم فعلاً او قانونياً مثل منح ترخيص لنشاط محضور.

3.    ان يكون المحل محدداً او قابلاً للتحديد.

4.    يجب ان يحقق مصلحة عامة.

ويترتب  على مخالفة أي من الشروط إصابة القرار بعيب المحل مما يبطل القرار.

 

يعتبر عيب المحل في النظام الفرنسي من عيوب المشروعية الجوهرية ففي قضية(Benjamin 1993  )الغى مجلس الدولة قرار يحظر محاضرة لأنه غير متناسب مع الغاية و اعتبر ان المحل تجاوز ما يجيزه القانون.

اما في القانون العراقي يعد ركناً جوهرياً حيث اذا كان الأثر القانوني للقرار مخالفاً للقانون او غير ممكن التنفيذ يُلغى القرار و مثال ذلك قرار محكمة قضاء الموظفين 55 – 2019 بإلغاء فرض عقوبة على موظف لان النص القانوني لا يجيز هذه العقوبة في هذه الحالة المعروضة فكان المحل باطلاً.

 

      الغرض او الغاية: القرار الإداري لا يعد غاية بحد ذاته بل ان رجل الإدارة عند إصداره للقرار      يستهدف تحقيق غاية معينة و هو الغرض النهائي او النتيجة النهائية من اصدار القرار. وهي تحقيق المصلحة العامة، وليس مصلحة شخصية او سياسية او انتقامية.

ولكي تكون الغاية مشروعة يجب ان تستهدف المصلحة العامة و تتفق مع الهدف الذي خُولت الإدارة السلطة من اجله و ان لا يكون القرار غطاء لتحقيق منفعة شخصية او اضرار بجهة معينة.

و عيب الغاية في الفقه يسمى بعيب الانحراف بالسلطة ونرى ان التسمية الوحيدة التي تليق لوصف هذا العيب فالإدارة اذا استهدفت من ممارسة نشاطها لتحقيق مصلحة خاصة تكون قد انحرفت في استخدام السلطة الممنوحة لها من اجل تحقيق المنفعة العامة.

في القانون الفرنسي يعتبر عيب الغاية سبباً مستقلاً لإلغاء القرار الإداري منذ قضية pariest 1875، التي ألغى فيها مجلس الدولة قراراً بحظر مصنع بحجة حماية الصحة العامة، بينما كان الهدف الحقيقي حماية مصالح مصنع منافس. حيث ان مجلس الدولة الفرنسي يراقب الغاية بدقة، لكن إثبات الانحراف بالسلطة صعب لأنه يتطلب قرائن قوية، مثل التناقض بين الأسباب المعلنة وحقيقة الظروف.

اما في القانون العراقي فأن المحكمة الإدارية تلغي القرار إذا ثبت أنه مشوب بعيب الانحراف في استعمال السلطة لكن إثبات الانحراف بالسلطة صعب جداً، لأن المحكمة تتطلب قرائن قوية (مراسلات، تسلسل أحداث، تصريحات…) لذلك يتميز عيب الانحراف في استعمال السلطة بالطابع الاحتياطي.

   ونذكر قرار المحكمة الإدارية رقم 101/2020 الذي ألغى قرار نقل موظف بعد ثبوت ان النقل كان بسبب خلاف شخصي مع المدير.

 

 

 

ثانياً: العقد الإداري

العقد الإداري هو اتفاق يبرمه شخص من أشخاص القانون العام (كالدولة أو الوحدات الإدارية أو الهيئات العامة) مع طرف آخر، بقصد تسيير مرفق عام أو تحقيق مصلحة عامة، ويتضمن شروطاً استثنائية غير مألوفة في القانون الخاص، مما يجعله خاضعاً لقواعد القانون العام وأحكام القضاء الإداري.

  في فرنسا التعريف أساسه اجتهاد مجلس الدولة، إذ لم يرد في التشريع نص جامع حيث اعتبر مجلس الدولة ان عقود الصيد التي تهدف خدمة المرفق العام هي عقود إدارية وذلك في قضية 

.Terrier 1903

 

  اما في العراق: لا يوجد تعريف تشريعي مباشر، لكن القضاء الإداري يستند الى المعايير المستقرة في الفقه الفرنسي وهي:

1.    ان يكون احد اطراق العقد شخصاً من اشخاص القانون العام.

2.    ان يتعلق العقد مباشرة بتسيير مرفق عام او تحقيق مصلحة.

3.    اتباع وسائل القانون العام، أي ان يحتوي العقد على شروط استثنائية تمنح للإدارة امتيازات خاصة.

 

و يمتاز العقد الإداري كما مبين في تعريفه بعدة خصائص:

1.    الطابع المرفقي بمعنى ان يتصل العقد بتسيير مرفق عام وتحقيق منفعة عامة.

2.    امتيازات تُمنح للسلطة العامة منها سلطة الغاء العقد بالارادة المنفردة اذا اقتضت المصلحة العامة او التعديل في شروطه.

3.    تخضع هذه العقود الى قواعد القانون العام من حيث الابرام، التنفيذ والرقابة بخلاف العقود المدنية التي تخضع لقواعد القانون الخاص.

و العقد الإداري كسائر العقود يتطلب لانعقاده توافر اركان منها اركان عامة موجودة في جميع العقود و أخرى تتصل بطبيعة العقد كونه عقداً ادارياً.

 والأركان العامة هي الرضا، المحل والسبب وهي تتشابه مع طبيعة الأركان في العقود المدنية اما الأركان الخاصة فهي:

-      ان يكون احد اطراف العقد من اشخاص القانون العام ( بلدية محافظة، وزارة، .....).

-      ان يكون العقد مرتبط بتسيير مرفق عام ( كأن تتعاقد وزارة الاعمار والإسكان مع احد الشركات لبناء جسر)

-      ادراج شروط استثنائية تضع الإدارة في مركز سلطوي في العقد (سلطة تعديل شروط العقد، انهاء العقد اذا اقتضت المصلحة العامة، توقيع جزاءات على المتعاقد)، وهذه السلطات تمنح للإدارة وان لم ينص عليها العقد لأنها من النظام العام كذلك لا تملك الإدارة ان تتنازل عنها لأنها تعبير عن فكرة السلطة العامة في العمل الإداري.

 

تملك الإدارة عدة سلطات في مواجهة المتعاقد وهي ليست على سبيل الحصر بل تعتبر السائدة في نظام العقود الإدارية و لا يوجد ما يمنع الإدارة من إضافة شروط و سلطات إضافية :

1.    سلطة الإدارة في الرقابة و التوجيه للتاكد من مطابقة التنفيذ للشروط المتفق عليها.

2.    سلطة الإدارة في تعديل العقد بتغيير الالتزامات المنصوص عليها في العقد اما بالزيادة او النقصان و هذا الحق سببه متطلبات سير المرافق العامة وقابليتها على التطور و عادة ما يتم النص صراحة على هذا الحق في العقد في المقابل يجب ان تراعي الإدارة عدة ضوابط منها ان توجد ظروف قد استجدت بعد ابرام العقد تبرر التعديل و ان تحترم الإدارة في هذا التعديل القواعد العامة للمشروعية ويجب الا يهدر هذا التعديل حق المتعاقد معها.

3.    سلطة الإدارة في فرض غرامات تأخيرية عند الاخلال بالتزام تنفيذ العقد و تحدد هذه الغرامات من قبل الإدارة المتعاقدة بنسبة لا تقل عن 10% و لا تزيد عن 25% من مبلغ العقد.

4.    سلطة الإدارة بانهاء العقد بالارادة المنفردة اذا اقتضت المصلحة العامة.

في مقابل هذه السلطات الممنوحة وجدت نظريتان قانونية لاعادة التوازن المالي بين الإدارة و المتعاقد وهي:

-      نظرية عمل الأمير: وهي عمل مشروع تقوم به الإدارة من شأنه زيادة أعباء التزامات المتعاقد مع الإدارة ويؤدي الى التزام الإدارة بالتعويض الكامل للمتعاقد عما فاته من كسب وما لحقه من خسارة و يختلف هذا التعويض في انه لا يتطلب صدور خطأ عن جانب الإدارة على عكس التعويض العادي الذي يتطلب توافر خطأ و ضرر وعلاقة سببية، او اذا أصبحت الالتزامات تشكل عبئاً عليه له الحق في المطالبة بفسخ العقد.

-      نظرية الظروف الطارئة: مفادها ان يتعرض المتعاقد لاضرار مالية لا يرجع سببها للإدارة او قد يرجع سببها للإدارة و ترجع فكرة هذا التعويض الى نفس فكرة نظرية عمل الأمير أي لا يوجد خطأ، وعليه تمنح الإدارة تعويضاً من شأنه ان يحمل المتعاقد على الاستمرار في تنفيذه لالتزاماته و السبب في ذلك يرجع لضرورة تسيير المرافق العامة فهو ليس تعويضاً عما لحقه من خسارة.

 

بعد ان بينا تعريف و خصائص العقد الإداري لا بد لنا ان نشير الى نهاية هذا العقد حيث ينتهي العقد الإداري اما نهاية طبيعية و هي تنفيذ لكل طرف التزاماته و نهاية مبتسرة قبل انتهاء الاجل الطبيعي له أي بفسخ العقد و أنواع الفسخ هي (الفسخ باتفاق الطرفين، الفسخ القضائي، الفسخ بقوة القانون، الفسخ الإداري)

ننتقل اخيراً الى القضاء المختص في الفصل في المنازعات الخاصة بالعقود الإدارية، يخضع الاختصاص بنظر المنازعات الناشئة عن العقود الإدارية في العراق للقضاء العادي ممثلاً بمحاكم البداءة، وليس للمحكمة الإدارية التابعة لمجلس الدولة. ويعود ذلك إلى أن المادة (7) من قانون مجلس الدولة رقم 65 لسنة 1979 المعدل حصرت اختصاص المحكمة الإدارية في نظر الطعون المقدمة ضد القرارات الإدارية النهائية، دون ان تمنحها ولاية على العقود الإدارية.

وقد كرست محكمة التمييز الاتحادية هذا الاتجاه في قرارها المرقم 356/هيئة عامة/2012 بتاريخ 9/7/2012، حيث جاء فيه::

 "إن النزاع الناشئ عن تنفيذ عقد مبرم بين جهة إدارية وأحد المتعاقدين، يعد منازعة حقوقية تختص بها محاكم البداءة باعتبارها صاحبة الولاية العامة، ولا يدخل ضمن اختصاص المحكمة الإدارية". 

كما أكدت المحكمة في قرارها المرقم 115/هيئة عامة/2018 بتاريخ 18/4/2018 أن::

 "المحكمة الإدارية تختص بالقرارات الإدارية النهائية ذات الطابع الإداري البحت، أما النزاعات المتعلقة بالعقود، حتى وإن كانت عقوداً إدارية، فإنها تخضع للقضاء المدني ما لم يرد نص قانوني خاص بخلاف ذلك".

وبذلك، فإن جهة الفصل في منازعات العقود الإدارية في العراق هي محكمة البداءة، مع جواز الطعن في أحكامها أمام محكمة الاستئناف بصفتها التمييزية.

اما النظام القضائي الفرنسي يختص القضاء الإداري بالنظر في المنازعات ذات الطبيعة الإدارية، بينما يتولى القضاء العادي الفصل في المنازعات المدنية والجنائية. وفي هذا الإطار، تخضع العقود الإدارية في فرنسا – كأصل عام – لاختصاص المحاكم الإدارية ومحاكم الاستئناف الإدارية. مع إمكانية الطعن أمام مجلس الدولة. 

ومع ذلك، توجد استثناءات ينعقد فيها الاختصاص للقضاء العادي، حتى لو كانت الإدارة طرفًا في العقد، وذلك في حال انتفاء الطابع الإداري للعقد لعدم ارتباطه بالمرفق العام أو خلوه من الشروط الاستثنائية او وجود نصوص تشريعية خاصة تُحيل النزاع إلى القضاء العادي، مثل بعض عقود العمل المبرمة مع موظفي المرافق الصناعية والتجارية.

وعليه، فإن الأصل في فرنسا هو اختصاص القضاء الإداري بالعقود الإدارية، بينما يظل اختصاص القضاء العادي استثناءً محددًا بنص أو بانتفاء المعايير القضائية للعقد الإداري. 


تم نشره بتاريخ 15 اغسطس 2025 الجمعة في الساعة 5:37 مساءً 

المصادر:

بسيوني عبد الله، عبد الغني. القانون الإداري – النشاط الإداري والقرارات الإدارية والعقود الإدارية. الإسكندرية: دار المطبوعات الجامعية، 2019.

الطماوي، سليمان. الوجيز في القانون الإداري. القاهرة: دار الفكر العربي، 2018.

مسعود، محمد عبد الحميد. القانون الإداري – قضاء الإلغاء، القاهرة: دار النهضة العربية، 2020

خليفة، عبد العزيز عبد المنعم. أركان القرار الإداري وعيوبه. الإسكندرية: دار الجامعة الجديدة، 2017.

شعيب، علي خطار. القرار الإداري بين النظرية والتطبيق. بيروت: منشورات الحلبي الحقوقية، 2016.

عبد الباسط، محمد فؤاد. القرارات الإدارية – دراسة مقارنة. القاهرة: دار النهضة العربية، 2018.

Conseil d’État. Recueil des décisions du Conseil d’État. باريس: Imprimerie nationale.

مجلس  الدولة العراقي. “أحكام المحكمة الإدارية”، مجلة مجلس الدولة، إصدارات 2015–2023.

سامي، محمد فوزي. العقود الإدارية في القانون العراقي. عمان: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2021.

حلمي، محمود. العقود الإدارية – دراسة مقارنة. القاهرة: دار النهضة العربية، 2019.

Rivero, Jean، و Henri Rolland. Droit administratif. الطبعة 20. باريس: Dalloz، 2022.

الطماوي، سليمان. العقود الإدارية – عقد الأشغال العامة وعقد التوريد وعقد الامتياز. القاهرة: دار الفكر العربي، 2017.

Conseil d’État. “Terrier”، 1903، Recueil Lebon.

Conseil d’État. “Époux Bertin”، 1956، Recueil Lebon.

Conseil d’État. “Compagnie générale française des tramways”، 1910، Recueil Lebon.

قانون مجلس الدولة العراقي رقم 65 لسنة 1979 المعدل.

قانون المرافعات المدنية العراقي رقم 83 لسنة 1969 المعدل.

محكمة التمييز الاتحادية. القرار المرقم 356/هيئة عامة/2012 في 9 تموز 2012.

محكمة التمييز الاتحادية. القرار المرقم 115/هيئة عامة/2018 في 18 نيسان 2018.

Code de justice administrative (France). Version consolidée. باريس: Légifrance، 2023.

Laferrière, Julien. Traité de la juridiction administrative et des recours contentieux. باريس: Librairie générale de droit et de jurisprudence، 2021.


أحدث أقدم