التفسير القانوني بالمفهوم التقليدي هو عملية عقلية هدفها الوصول الى المعنى المراد من قبل المشرع من النص الذي اكتنفه الغموض. وعليه، تتطلب هذه العملية نصا قانونيا يحكم الواقعة، وغموض النص القانوني واجب التطبيق، هذا التطبيق يوصف بالناجح اذا وصل الى الحكم المرغوب به من قبل المشرع، وليس بالضرورة الوصول الى الحكم العادل. هذه المهمة القاصرة تبرر على أساس توزيع المهام بين المشرع الذي يبحث عن الحكم العادل الذي يعمم على الجميع، وبين القضاء الذي يقضي بهذه الأحكام عندما يجب الحكم بها. إلا أن المفهوم الحديث للتفسير القانوني والذي يدعمه التطبيق القضائي هو أنه عملية عقلية الهدف منها الوصول الى الحكم العادل من خلال خلال إسقاط القواعد القانونية على الوقائع المعروضة أمام المفسر، وليس الوصول الى الحكم المرغوب به من المشرع، مما يؤكد انفصال القاعدة عن مشرعها بمجرد دخولها حيز التطبيق والحاجة الى التفسير في كل مرة يحتاج الى تطبيق النص لا فقط عند غموض المعنى، لان بأي حال من الاحوال يجب ان يتم التطبيق بالأسلوب الذي يضمن العدالة وهو ما يحتاج الى تبرير اختيار الحكم من خلال التفسير المحكم.
وكلا المفهومين التقليدي والحديث للتفسير يواجهان مشكلة بينة، وهي تغير الاوضاع التي استدعت ان يصوغ المشرع الحكم في قاعدة قانونية بمرور الزمان. بمعنى تجرد علة وضع القاعدة القانونية من مشروعيتها. فيكون تفسير النص بنفس الأسلوب الذي فسرت به قبل مدة من الزمن يصوب بنا الى حكم ظالم بسبب تغير المفهوم العام للعدالة بتغير المكان والزمان الذي يطبق فيهما النص. من هنا يظهر لنا مفهوم التفسير القانوني المتطور. فمعناه ان يفسر القاضي او غيره النص بطريقة تواكب تجدد ما هو عادل وفق المكان والزمان(١). ان هذا الاسلوب من التفسير يضفي حيوية ومرونة للمفهوم الحديث للتفسير، ويؤصله بعض الباحثين على أنه تطبيق لمبادئ القانون الطبيعي(٢). ونرى أن هذا من قبيل الصدفة ليس الا، فيصعب في الواقع تصديق أن القضاة وهم يحكمون عشرات الدعاوى يوميا يعزون أحكامهم على أساس مذهب قانوني معين. فهذا الأمر يتطلب تفرغ فكري واداري غير موجود، والتأصيل الأكثر منطقا هو انه اسلوب نابع من الإحساس الشخصي بالعدالة، بالرغم مما تحمله هذه العبارة من خطورة، فهو في رأينا الأكثر واقعية. فالقاضي يدمج بين الحكم القانوني والحكم الإنساني للواقعة المعروضة أمامه ليخرج بالحكم في ظاهرة اسميناها التفسير المتطور، ويقع مجال تحركها في السلطة التقديرية الممنوحة له وفقا للقانون. من جانب اخر ان الاعتماد على هذا المعيار الشخصي للقاضي هو الحل الوحيد في الضرورة القضائية، وهو ما ادركه المشرعون منذ زمن طويل، فدفعهم الى منح القاضي حيزا لاستخدام قدراته الشخصية والتي تخضع في كثير من جوانبها لرقابة المحاكم الاعلى.
بالطبع، أن مسألة تغيير الأسلوب الذي نفهم من خلاله قاعدة قانونية تثير تساؤلات عن الجهة المخولة بذلك وعن الظروف المعينة التي تسمح به وكيفية مرور ذلك بالاجراءات الادارية العديدة المرافقة لصدور قرار أو حكم دون تعقيد. أن المفيد من الكلام هو أنه أمر حاصل ومتكرر في معظم الدول والانظمة القضائية من العراق حتى الصين وبريطانيا. فتقوم به عادة المحكمة الاعلى في الهرم القضائي العادي، أو تقوم به محكمة أبتدائية وتوافق توجهها المحكمة الأعلى عند الطعن، وهذه احدى حالات ما يسمى عندنا بـ(تغير الاتجاه القضائي).
وأذا اردنا تطبيق التفسير القانوني المتطور سيكون كالاتي:
تنص المادة ٤٣٧ من قانون العقوبات العراقي على (يعاقب بـ…كل من علم بحكم وظيفته او صناعته او فنه او طبيعة عمله بسر فأفشاء في غير الأحوال المصرح بها قانونا أو استعمله لمنفعته أو منفعة شخص آخر. ومع ذلك فلا عقاب إذا أذن بإفشاء السر صاحب الشأن فيه أو كان إفشاء السر مقصودا به الاخبار عن جناية او جنحة او منع ارتكابها). ولما تجرم المادة إفشاء السر إلا في حالتين هما الاذن من صاحب الشأن ومنع وقوع جريمة أو الكشف عنها، فإذا افشى شخص سر اخر بدون اذنه ولكن لمصلحته وليس لمصلحة المفشي او شخص اخر، نكون في حالة تفسيرية تتطلب منا اعمال التفسير المتطور، ويمكننا الوصول حسب الزمن الحاضر والوضع الاجتماعي للعراق الى عدم جواز إفشاء السر بدون إذن صاحبه حتى ولو كان لمصلحته تقيدا بالنص. ولكن ماذا لو كان الإفشاء لإنقاذ حياة صاحب السر؟ كأن يفشي طبيب حالة أحد مرضاه لاقربائه أو لاغراب لكي يقوموا بما هو لازم لانقاذه. علما ان مثل هذه الحالة لا تعتبر من الاحوال المصرح بها قانونا في العراق، بل هي من الواجبات الاخلاقية والمهنية الطبية غير المقننة. أن اعمال التفسير الصحيح يقضي بعدم تجريم فعل الطبيب، ولكن هل من الغريب أن يكون ذات الفعل مجرما بعد ٢٠ عاما عندما يكون للمجتمع تقبل اكبر لتحكم الفرد الكامل بحياته حتى في موته؟ كما توجد اليوم في الولايات المتحدة أوامر عدم الإنعاش (DNR) حيث أصبح من المستقر قضائيا ان يقاضى الطبيب مدنيا عن إنعاش المريض الذي يحمل معه هذا الأمر. فإذا كان إفشاء السر لانقاذ حياة هذا المريض فهو حتما في هذا الوضع يعتبر جريمة.
وكمثال آخر، تقضي المبادئ القضائية في القضاء الإداري بتعويض الادارة للموظف عن كل ضرر يصيبه اثناء رحلة العمل (الايفاد) او بسببها طالما انه لم يتسبب أو يساهم بالخطأ مع الأخذ بعين الاعتبار المسؤولية المشتركة. وعليه من الطبيعي أن لا يستحق الموظف التعويض ان ارتكب فعلا أو حدث له حادث أثناء رحلة العمل بدون وجود رابطة بالعمل ذاته. كأن يتوفى الموظف او يمرض بسبب تعاطيه الكحول او المخدرات او ممارسته الجنس. ومع ذلك يقضي التفسير المتطور انه اذا كان تعاطي المخدرات أو ممارسة الجنس أمرا معتادا أو لا يثير سخطا اجتماعيا او قانونيا، فيستحق الموظف التعويض. وهذا ما حكمت به محكمة الفرنسية بعد وفاة موظف أثناء رحلة العمل بالرغم من قيامه بأعمال لا تمت بالعمل بصلة، وسببت المحكمة حكمها بأن أقامة علاقة حميمية (بالرغم من العلاقة في الدعوى غير مشروعة) أمر طبيعي كتناول الطعام وشرب الماء ومن ثم يجب التعويض عن وفاة الموظف(٣). وذات الامر يمكن تصوره عن تعاطي المخدرات أو الكحول، فهو امر قانوني وطبيعي في كثير من البلدان. وعليه يمكن تصور أن تعاطيها لا يعتبر خطأ من جانب المتعاطي مما يحمل الطرف المقابل في النزاع القضائي كامل المسؤولية او معظمها.
يتبين من المثالين أعلاه أن التفسير القانوني المتطور يقودنا من تفسير مستقر الى متقدم وفي احيان اخرى الى تفسير متطرف أو غير عادل. وهذا ليس عيبا في المفهوم او الاسلوب مطلقا. بل هو عيب في فهمنا للعدالة والعدل. فالفقه القانوني والإنساني عموما، الا القليل، يرى أن العدالة نسبية، وعليه هي متغيرة من مجتمع الى مجتمع ومن ظرف الى ظرف ومن زمان الى زمان. فالحكم الذي نراه ظالما في مجتمع آخر قد يكون قمة العدالة. من ثم أن العدالة مرتكزة على قبول النظام الاجتماعي لوضع ما، وإن تغيرت نظرة مجموعة كافية من الأفراد يعيشون فيه تجاه أمر ما بحيث يحدثوا تغيرا في النظام من خلال تأكيد عدم استقراره ان بقي الحال على ما هو، يتغير شكل النظام الاجتماعي لكبح التهيج الناتج عن الآراء المتضاربة فيتجدد مفهوم العدالة القائم على هذا النظام ليواكبه. ان هذه الرؤية تبسط الى حد الإخلال، فهي النظرة الاقتصادية والبرمجية لمفهوم انساني. فهي في نظرهم عملية شعورية قابلة للحساب، فالعدالة هي ما يرضي المجتمع بالقدر الكافي لاستمرار تقدمه. أما اتجاه تقدمه فهو أمر خارج نطاق العملية.
ونختلف بشدة مع هذا التصور، فالعدالة استنادا على العلم لا التنظير، مفهوم ثابت متأقلم، لا متغير ولا متجدد. فهي تمتلك معايير ثابتة تصاغ عليها النتائج والوسائل التي نسميها عادلة، فأن وصلنا مثلا الى نتيجة ضرورة ازهاق الروح يجب ان تستند هذه النتيجة الى عدة معايير لا تتغير مثل قيمة النفس البشرية وصاحب الحق بالتصرف فيها وغيرها، كذلك طريقة اوهاق الروح، هل تكون علنا ام سرا، وهل اساس الخيار هنا هو مصلحة المجتمع ككل ام المصلحة الشخصية للمجنى عليه واسرته. ونصل الى هذه المعايير الثابتة التي تكون في مجموعها صورة العدالة من خلال العلوم الانسانية والتطبيقية معا لا فقط من خلال الفلسفة. هذه العلوم بالاضافة الى وسائل تحقيق النتائج العادلة هي التي تتأقلم مع الزمن اما الهدف منها ونتيجتها النهائية فثابتة. اما عدم كونها متغيرة او متجددة، فنقصد بذلك ان تصور العدالة بمجموعها تختلف من زمن الى اخر او انها تستحدث شكلا ونظاما جديدا، يعني ان قيمة الروح البشرية مثلا (بأعتبارها احد المعايير)، تتغير من زمن الى اخر لان هذه القيمة من المعايير الاساسية التي يقوم عليها مفهوم العدالة من ثم اذا كان احد اجزاءه متغيرا فهو حتما في جزء منه او اكثر متغير، ولنا ان نتخيل نتيجة هذا التغير تبعا لتغير الجزء ذاته. وقيمة النفس البشرية هنا مثال واحد فقط. وعليه أن الحكم العادل هو الذي يصل في نهاية الأمر إلى نتيجة عادلة بصرف النظر عن مدى تقبل النظام الاجتماعي له. ذلك بالطبع يضعنا امام خطر عدم استقرار النظام أو انهدامه كليا. لكننا ان تقبلنا الامر على ما هو عليه الان فنحن نحافظ على انظمة ظالمة او متجهة حتما نحو الظلم. فالحل هو بالمعالجة التدريجية، الا ان هذه الاخيرة متوقفة أيضا على تقبل فكرة العدالة المطلقة، وهي ما تتعارض كليا مع اي مجتمع مادي\علماني او حتى محايد. وهي بالتأكيد من المراحل القادمة في تطور القانون وتطور العلوم الانسانية. أما عن سبب التعارض، فهو ان وجود حقيقة مطلقة لا تتغير يعني انها لا يمكن ان تقارن او ان تجمع مع او تطرح من قيم اخرى، فلا يمكنني مثلا ان اطرح من راتبي لاحصل مقابله على العدالة، فأحدهما مادي والاخر أنساني وأخلاقي، الا ان المجتمع المادي\العلماني يستطيع ان يقبل هذه العملية الحسابية عندما تكون العدالة نسبية اي عندما لا تكون مطلقة، فهذا المجتمع لا يؤمن بأمر مطلق فكما يمكننا التغاضي عن الجوع لبضع ساعات لن يضرنا ان تغاضينا عن العدالة لنفس الوقت وهكذا، بالطبع ان هذه الفلسفة تبرر نسبية العدالة بأنها تصب في العدالة نفسها وهو امر غير مقبول، كأن العطش يبرر بأن الشوق للماء يجعل طعمه افضل، ومن جانب اخر لا يمكننا ان نرى مجتمعا علمانيا بالكامل، ولا العكس وهو المجتمع الديني او الهيوماني.
وبالعودة الى الأحكام أعلاه مع هذا التصور الجديد، سيبقى انقاذ حياة المريض اولى من العقاب على إفشاء السر، لأن الحياة ليست حقا مجردا للحي بل هي كيان كيان مزدوج من الحق والواجب. وأما تعويض الموظف، فأن كانت الوفاة بسبب العلاقة غير المشروعة التي أقامها او المخدرات التي تعاطاها او الكحول التي تناولها فهو لا يستحق التعويض لعدم وجود خطأ من جانب الادارة بل من جانبه هو، فالاضرار الجسدي بالنفس خطأ وإن لم يكن القانون يرتب أثرا عليه.
هكذا تختلط مهمة تطبيق النص بالاستيعاب الكامل للابعاد الانسانية للحكم او التصرف الاداري بالاضافة الى الابعاد القانونية، وغياب البعد الانساني في عملية التفسير يعني غيابا لجوانب علمية فيها تقودنا الى حكم غير مشروع بصرف النظر عن شرعيته. وغالبا ما يطالب الفقه القانوني في هذا الموقف بالتعديل التشريعي، وهو بالتأكيد حل سليم، لكنه مرافق للتأخير ولنتائج غير اكيدة، بينما يكمن الحل الامثل في القضاء السليم.
المصادر
١- الموجز في قانون الاثبات، آدم وهيب النداوي، طبعة ٢٠١٨، المكتبة القانونية، بغداد، ص٣٧.
٢- Daniel Anderson Putra Sitepu, Hartiwiningsih Hartiwiningsih, Muhammad Rustamaji, Classical Thought and Legal Theory Underlying Progressive Judges to Achieve Justice. Proceedings of the International Conference On Law, Economic & Good Governance (IC-LAW 2023), p: 227-230.
٣- منشور في جريدة العمق المغربي
https://al3omk.com/456247.html
تم النشر يوم الخميس بتاريخ 28 اغسطس 2025 الساعة 5:00 مساءً