من المعروف، ان الجريمة تتكون من ركنين لا تقوم إلا بهما، وهما الركن المادي والركن المعنوي، فالركن المادي يتمثل بالسلوك الحركي السلبي والإيجابي، او هو كل فعل او امتناع عن فعل يشكل انتهاك للمصالح العليا للمجتمع ويعاقب القانون على إتيانه.
أما الركن المعنوي فهو الركن النفسي او الرابطة النفسية التي تحرك ماديات الجريمة وتوجهها، حسب إرادة وقصد الجاني او حسب ماكان يجب ان يعرفه ويتوخى فيه الحذر، نحو سلوك مجرم قانوناً. فالركن المعنوي هو المحرك الأول والأساسي للنشاط الإجرامي المرتكب.
ويتكون الركن المعنوي من عنصرين هما: العلم والإرادة، فالعلم يتمثل بمعرفة الجاني بالسلوك الذي يرتكبه ويدرك مخاطره، ويعلم بنتائجه فيقدم على ارتكابه، مثال على ذلك/ عندما يقوم شخص برؤية امرأة حامل فيقوم بركلها بقوة مما أدى اصابتها واسقاط طفلها، فالجاني عندما قام بإصابتها هو يعلم يقيناً انها كانت حاملاً، ويعلم ان نتيجة فعله ستؤدي الى نتيجتين هما اسقاط الطفل واصابة الامرأة.
اما الإرادة، فتعني النية بتحقيق نتيجة معينة والتصميم والرغبة في إتيان سلوك محدد، دون ضغط او اكراه بل بفعل نابع عن إرادة وحرية في تحقيق النتيجة الإجرامية. مثال على ذلك/ شخص (أ) كان يمشي في الشارع ثم رآه شخص (ب) الذي كان يتشاجر معه منذ قليل، ثم قام (ب) بسحب سلاحه وأطلق النار عليه. في هذا المثال كان الجاني قد تشاجر مسبقا مع المجني عليه، وبعد قليل قام بفعله الاجرامي مما يتبين لنا ان الجاني كان لديه الوقت للتفكير والرجوع عن قراره، لكنإ رادته بإتيان الفعل الاجرامي لازالت مستمرة فقام بأطلاق النار عليه عن إرادة واضحة دون تفكير.
ولكن ما هي أهمية الركن المعنوي، ولماذا يعد ركناً مهماً في الجريمة؟
الركن المعنوي هو المحرك الأساسي للرغبة النفسية لارتكاب سلوك اجرامي ويقود الجاني لارتكاب الركن المادي، بالإضافة الى ذلك الركن المعنوي هو الذي يحدد المسؤولية الجزائية لمرتكب الفعل الجرمي اذ لاجريمة بلا إرادة وقصد يهدفان لتحقيق الجريمة التي تجرمها نصوص القانون، فهناك حالات يُرتكب فيها الفعل المادي المكون للجريمة لكن قد تلحق بهذا الفعل عدة حالات يُمتنع فيها القول بأن الجريمة قد تحققت، مثل حالات "موانع المسؤولية" وموانع المسؤولية تختلف باختلاف الحالة المؤدية إليها كالجنون، صغر السن، السكر والتخدير، الإكراه.
فالمجنون هو شخص فاقد الأهلية لا يملك الأدراك والتمييز المطلوبان لتحقق الركن المعنوي ثم الجريمة، ولا يعي ما يفعل ولا يقدر نتيجة افعاله، لذلك من غير المعقول ان تتم محاسبته واعتباره مسؤولا عن فعلٍ لا يملك الخيار فيه او اتيانه، فالمجنون او المصاب بمرض عقلي عندما يرى شخص امامه فيقوم بالاعتداء عليه بالضرب او الأذى، هو بهذه الحالة لا يملك قدرة التعبير عن ارادته بصورة قانونية صحيحة، لذلك تنهدم مسؤوليته الجزائية ومن ثم تنتفي الجريمة لعدم توفر ركن من أركانها ألا وهو "الركن المعنوي".
كذلك صغر السن، شأنه شأن المجنون فهو لا يتمتع بالإدراك والتمييز العقلي لتقدير نتائج اعماله، ويحاسب امام القانون على افعاله الجرمية.
فيما يتعلق بالسكر والتخدير، فهي أيضا حالة من حالات موانع المسؤولية الجزائية، والتي تعني تناول مواد مسكره او مخدرة سواء بالحقن او الابتلاع او الشرب، والتي تؤدي حتماً الى ضعف ادراكه إذالم تؤدي ذهابه تماماً، فيمكن القول بأن درجة وكمية ونوع المواد المخدرة والمسكرة تؤثر على إدراكه ومن ثم مسؤوليته الجزائية، تخفيفاً اوتشديداً، مثال ذلك شخص يقوم بشرب او تعاطي المواد المخدرة لكي تسهل عليه عملية ارتكاب الجريمة (تشديد المسؤولية)، وشخص يتناول المشروبات المسكرة او المخدرة لكنها اثرت على ادراكه وارادته بنسبة%60 الى 70%، ففي هذه الحالة لم يذهب الادراك والركن المعنوي بعنصريه تماماً بل جزئياً، ففي هذه الحالة تبقى السلطة التقديرية للقاضي عندما يأتي لتشديد العقاب عليه او تخفيفه بحسب درجة تأثيرالمواد عليه.
واخيراً، أهمية الركن المعنوي عند وقوع الجريمة بالإكراه...
ففي هذه الحالة التي تعد حالة من حالات موانع المسؤولية، ينعدم او يبقى الركن المعنوي بحسب طبيعة الاكراه ونوعه، أكان ملجئ ام غيرملجئ، فالإكراه الملجئ هو الاكراه الذي لا يترك في المجال للمُكره خياراً لارتكاب الجريمة سواء أكان مادياً ام معنوياً، بحيث تتوقف عليه حياة او موت أحدهم، اما النوع الاخر من الاكراه غير الملجئ فهو العكس، الذي يُترك فيه المجال للمُكره الخيار للقيام بالفعل المكره عليه ام لا.
امثلة على ذلك/ شخص (أ) يقوم بتهديد شخص (ب) بإيقاع القتل عليه اذا لم يحرر له شيك مزور ليقوم بسرقة مال به، والشخص (أ) يحمل سلاح المسدس يهدد به (ب)، فهذه الحالة تسمى اكراهً ملجئً لان المجنى عليه لا يملك الخيار والخطر محدق به.
او شخص (أ) يهدد شخص (ب) بانه سيوقع عليه مكروه او يقوم بقتله اذا لم يقم (ب) بتوقيع سند معين، لكن شخص (أ) لا يحمل سلاحاً سوى الكلام فهو في ذات منزلة الشخص (ب)المُكره ولديه الخيار والوقت الكافي للتقرير، فهذه الحالة تعد اكراهاً غير ملجئ ولم ينعدم فيها الركن المعنوي المتمثل بالعلم والإرادة ابداً، فلا تعد هذه الحالة عندئذ من حالات موانع المسؤولية للسبب المذكور أعلاه.
الخلاصة، الركن المعنوي ركن مهم واساسي في الجريمة، لا تقوم الأخيرة بدونه، وهو الذي يحدد مسؤوليه الجناة ويقوم بتشديد مسؤوليتهم او تخفيفها وهو الأساس الذي يقوم عليه الركن المادي. ويقوم الركن المعنوي بوظيفة تحويل السلوكيات والأفكار والنية الصحيحة العمدية الى أفعال مادية ملموسة يعاقب عليها القانون، لأنه كما هو معلوم ان القانون لا يحاسب على النيات المجردة الكامنة في النفس الإنسانية، دون ان تتخذ شكل سلوك مادي يؤثر على كيان المجتمع سلباً او ايجاباً.
تم نشره بتاريخ 25 اغسطس 2025 يوم الاثنين في الساعة 5:00 مساءً
تصنيفات الموضوع
اساسيات القانون
اساسيات القانون - جنائي
القسم الجنائي
مقال
مقالات
نور الهدى فراس حسون


.png)