ومضات على فن التفاوض

  بقلم: الدكتورة شذى عبد جمعة الربيعي 

التفاوض هو عملية حوار ومناقشة بين أطراف ذات اهتمامات مشتركة بأفكار متعارضة، حيث يسعى كل طرف من الأطراف المتفاوضة إلى التوصل لإتفاق يرى فيه انه يحقق مصالحه ويتوافق مع أهدافه، فقد يكون التفاوض بخصوص مناقشة شروط عقد يسعى الأطراف المتفاوضة لإبرامه، أو لغرض تسوية نزاع قانوني أو اي موضوع ما يتطلب الإتفاق بين أطرافه.

إبتداءً وقبل الشروع في التفاوض يتطلب من الأطراف المتفاوضة تحديد التحديات المحتملة التي ربما قد تعترض سبيل التوصل إلى إتفاق، أي ينبغي على كل طرف أن يكتشف الأمور والمسائل التي تهم الطرف الآخر كما يجب عليه تجنب تلك التي قد تثير غضبه أو تتسبب في إزعاجه، كما انه من الضروري ايضا تحديد متطلبات الطرف الآخر والأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، أي من الضروري أن يحدد المفاوض أهدافه بطريقة تتوافق مع إستجابة الطرف الآخر مع الحرص على تقديم هذه الأهداف بأسلوب مختصر ودقيق دون المساس بالمضمون، فالمفاوضات تمثل حواراً بين الأطراف المشاركة مما يستوجب إتاحة الوقت الكافي لكل طرف للتعبير عن اهدافه والمقاصد التي يسعى لتحقيقها ليتمكن كل منهم تنظيم حساباته ومطالباته والتحاور بشأنها بفاعلية.

إذ ينبغي على المفاوض أن يلتزم في حديثه بالحدود التي تحددها العلاقة مع الطرف الآخر دون تجاوزها لضمان استمرار التفاوض في إطار الموضوع المحدد دون انحراف نحو تفاصيل جانبية قد تؤدي إلى الخروج عن جوهر النقاش ومبتغاه، كما يجب الإمتناع عن إستخدام أساليب المساومة غير الشفافة مع مراعاة مختلف الإحتمالات المتوقعة بين الأطراف، فضلاً على ضرورة التحلي بالهدوء وضبط النفس وتقبل أفكار الطرف الآخر علاوة على التواضع والصبر وسعة الأفق والتي تعزز من قدرة المفاوض على الإقناع، كما ينبغي العمل على استمرارية الحوار بين الأطراف المتفاوضة من خلال طرح اسئلة بناءة بغض النظر إن كانت هذه الأسئلة ايجابية أم سلبية، طالما أنها تهدف إلى توضيح أفكار واتجاهات الطرف الآخر على أن تطرح هذه الأسئلة بطريقة تشعر الطرف الآخر بأهمية الإجابة عليها من أجل توضيح معالم الإتفاق المستقبلي بشكل يضمن لكل طرف حماية حقوقه وإلتزاماته، على أن يكون الهدف من هذه الأسئلة الوصول إلى إتفاق مشترك مع تجنب الأسئلة التي قد تثير التوتر أو القلق لدى الطرف الآخر وتجنب الأسئلة الخادعة أو المراوغة كما ينبغي أن تكون الأسئلة ملائمة لمستوى واستعدادات الطرف الآخر العلمية والعملية.

ومن المعلوم أن المفاوضات الأولية لا تنتج أي أثر قانوني ويحق لكل طرف أن ينهيها في أي وقت يراه مناسباً طالما لم يتم التوصل إلى إتفاق مقبول ونهائي من الأطراف المتفاوضة، ومتى ما قرر أحد الأطراف إنهاء المفاوضات والإنسحاب منها فلا يتحمل أية مسؤولية قانونية ولا يطلب منه تقديم الأسباب التي دعته للإنسحاب أو العدول، إلا أنه قد يتحمل عبء المسؤولية القانونية متى ما إرتكب خطأً والحق ضرراً بالطرف الآخر وعندئذ تطبق القواعد العامة للمسؤولية المدنية والتي يكون مصدر هذه المسؤولية هو الخطأ المرتكب وليس مجرد الإنسحاب من المفاوضات ومخالفة مبدأ حسن النية في التفاوض.

والاصل انه متى ثبت أن الطرف الذي أنهى المفاوضات لم يكن تصرفه بحسن نية عند دخوله ابتداءً في التفاوض، وإنما كان يستخدمها كأداة للمماطلة والتسويف بهدف تحقيق غاية معينة يبتغيها، وهو ما أدى إلى إلحاق الضرر بالطرف الآخر الذي إعتمد على أن المفاوضات جدية وإتخذ الإجراءات اللازمة لضمان نجاحها مما يستوجب تعويض الطرف المضرور عن الأضرار التي لحقت به بما في ذلك من ضياع للوقت والمال.

وفي الختام يبقى التفاوض فنًا لا يُتقنه إلا من يجمع بين الفطنة القانونية والحكمة الإنسانية،  فالمفاوض الناجح لا يسعى فقط إلى تحقيق مصالحه، بل يعمل على بناء جسور من الثقة والتفاهم، ويحرص على أن يكون الاتفاق ثمرة لحوار ناضج وتوازن عقدي رصين؛ لا نتيجة لصراع أو خداع. وفي ظل عالم متغير تزداد الحاجة إلى مفاوضين يتحلون بالشفافية، والاحترام، والقدرة على تحويل الخلاف إلى توافق، والاختلاف إلى فرصة.

تم النشر يوم الاثنين بتاريخ 1 سبتمبر 2025  الساعة 5:00 مساءً


أحدث أقدم