حدود سلطان الارادة في مواجهة القواعد الآمرة

بقلم: المحامي مصطفى شريدة الجبوري

مقدمة

تعريف مبدأ سلطان الإرادة

مبدأ سلطان الإرادة نظرية تدخل في نطاق فلسفة القانون و هذا المبدأ تلقيناه من فلسفة القرن الثامن عشر التي أتسمت بالفردية و الأرادة الحرة و التي نبع عنها إعلان حقوق الإنسان و فلاسفة القانون بحثوا في موضوع سلطان الإرادة بعناوين مختلفة منهم من بحث الفقيه جان جاك روسو يمكن للمرء أن يبدأ بالنظر إلى تاريخ الدور الذي لعبته الإرادة في تطور القانون كما نعرفه اليوم. حسبما يروي لنا أرسطو، فإن هيبوداموس الميليتي، كان يرى أن هناك ثلاثة موضوعات فقط للإجراءات القانونية، وهي: الإهانة، الضرر، والقتل.

في إنجلترا، وحتى القرن الخامس عشر، كان يُمكن القول في محكمة الملك إنه لا يجب النظر في مسألة النية، لأنه كان يُقال إن الشيطان نفسه لا يعرف نية الإنسان. في تلك المرحلة من التطور القانوني، لم يكن هناك مكان للإرادة.

في بداياته، كان الهدف من القانون هو، وبهدف وحيد فقط، الحفاظ على السلام. أما المهام الأخرى للرقابة الاجتماعية فكانت تُترك لوكالات أخرى: مثل الدين، والانضباط العائلي، والرأي العام للعشيرة أو أفراد الجماعة القريبة.

المصلحة الوحيدة التي يحققها القانون هي المصلحة الاجتماعية في الأمن العام بأدنى أشكاله، أي المصلحة في السلام والنظام العام. في مجتمع منظم على أساس القرابة، كان اعتداء شخص على آخر يؤدي بالتأكيد إلى حرب أهلية خاصة. سعى القانون لمنع المعتدي وأقاربه من التدخل في الانتقام الذاتي من قبل الشخص المتضرر. كما أن أعمال الانتقام كانت محدودة وطريقة تنفيذها كانت منظمة؛ إذ فرض القانون قيودًا على مقاضاة الحروب الخاصة وعلى الثأر الدموي. بعد ذلك، حاول القانون تلبية رغبة الشخص المتضرر في الانتقام عن طريق اشتراطه…

جان جاك روسو

من كتابه "العقد الاجتماعي" (Du Contrat Social)، الفصل الأول:

"Man is born free, and everywhere he is in chains. The social order is a result of the voluntary agreement of free individuals."

الترجمة: "الإنسان يولد حرًا، وفي كل مكان هو في قيود. النظام الاجتماعي نتيجة اتفاق طوعي بين الأفراد الأحرار."

أفلاطون

كتاب "المنحي" (Meno):

"No one does wrong willingly; every wrongdoing is due to ignorance."

الترجمة: "لا أحد يخطئ عن قصد؛ كل خطأ ينشأ عن الجهل."

المعنى: الإرادة البشرية بطبيعتها تسعى للخير إذا كانت تعرفه، وهو أساس حرية الإرادة الواعية.

كتاب "الجمهورية" (Republic)، الكتاب الرابع:

"The good of the city and the good of the soul must be in harmony; the individual must obey the law to achieve justice."

الترجمة: "خير المدينة وخير النفس يجب أن يكونا في انسجام؛ على الفرد أن يطيع القانون لتحقيق العدالة."

المعنى: الحرية الفردية موجودة، لكنها مقيدة لتحقيق النظام والعدالة.

وتتلخص هذه الفلسفة في أن الناس ولدوا أحراراً و متساوين في الحقوق و هذه الحرية و المساواة تقتضي بأن يسمح لهم بأن يأتوا ما شائوا من التصرفات بشرط عدم الأضرار بالغير. أما القهر الاجتماعي الذي يتمثل في القانون فيجب ألا يكون إلا في أضيق الحدود لحماية النظام العام و الآداب العامة فأرادة الفرد يجب أن تكون حرة لأن الفرد وجد قبل المجتمع و المجتمع وجد لإسعاد الفرد و على ذلك فيجب ألا يحد القانون من الحرية إلا استثناءً. والنتيجة المنطقية لهذه الفلسفة الفردية هو أن تعتبر الإرادة هي مصدر القوة الملزمة للعقد أما دور القانون فهو تحقيق تنفيذ الالتزام الذي ارتضاه الطرفان و هذا ما يعبر عنه بأن ( العقد شريعة المتعاقدين ) المادة (146/1) مدني.

نتائج تطبيق مبدأ سلطان الإرادة

تترتب على تطبيق مبدأ سلطان الإرادة نتيجتان هامتان:

1. حرية المتعاقد: فالأفراد أحرار في أن ينشئوا ما شائوا من أنواع العقود و أن يضمنوها الشروط التي يرتضونها. فلا يجوز للقانون أن يفرض قيوداً على حرية التعاقد إلا استثناء لحماية النظام العام و الآداب.

2. احترام الإرادة التعاقدية: فما اتفق عليه الطرفان يجب أن ينفذ كما هو و بالصورة التي أراداها فلا يجوز أن يعدل أو يوقف تنفيذ الالتزام إلا باتفاق جديد بين الطرفين. فلا يجوز للقانون و لا للقاضي أن يتدخلا في حياة العقد بالتعديل أو بإيقاف التنفيذ. وهكذا فإن مبدأ سلطان الإرادة يسيطر على حياة العقد منذ تكوينهُ حتى تنفيذه.

نقد مبدأ سلطان الإرادة

توجه إلى مبدأ سلطان الإرادة انتقادات وأهمها:

1. أن هذا المبدأ يتجاهل فكرة التضامن الاجتماعي فهو ينظر إلى مصلحة الفرد وحدها دون مصلحة الجماعة.

2. عند تنفيذ العقد كثيراً ما تقتضي العدالة أن يتدخل القاضي بل و المشرع نفسه في حياة العقد و خاصة إذا ما أدت الأزمات الاقتصادية إلى اختلال التوازن بين التزامات طرفي العقد مما يقتضي تدخل المشرع أو القاضي بتعديل التزامات المتعاقدين.

انحسار سلطان الإرادة تحت تأثير القواعد الآمرة

بعد ما كان لمبدأ سلطان الإرادة فاعلية في إبرام العقد و كان صاحب السلطان الأكبر في تحديد آثاره الذي نادى به المذهب الفردي، إلا أن مفعوله تراجع و انتكس في نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين و هذا بفعل تطور الظروف الاقتصادية و الاجتماعية مما أدى إلى ظهور المذهب الاجتماعي الذي قيد الحرية الاقتصادية و الذي يرى الاعتداد بمصلحة الجماعة قبل مصلحة الفرد، حيث أصبحت الدولة تتدخل لتنظيم العقد بفرض قيود على الإرادة التعاقدية و اتسعت دائرة النصوص الآمرة التي لا يجوز الاتفاق على مخالفتها لحماية النظام و الآداب العامة في المجتمع، و من ثم فهي تخرج عن الدائرة التي تنطلق فيها حرية الإرادة. وعليه، فلم يعد مبدأ سلطان الإرادة مبدأ مطلق كما كان في السابق.

مجالات تطبيق مبدأ سلطان الإرادة 

اختيار الأطراف وشروط العقد: يحق للأطراف اختيار المتعاقد الآخر بحرية، ولهم أن يختاروا نوع العقد و العمل الواجب و الموصوف في العقد و لهم كامل الحرية بصياغة العقد كما يمكنهم تحديد شروط العقد بما يتوافق مع مصالحهم المشتركة، دون تدخل المشرع إلا في حدود القواعد الآمرة.

حرية الأطراف في اختيار لغة العقد (chose the language of the contract).

المبدأ الحاكم في العقود لاسيما عقود القانون الخاص، هو (سلطان الإرادة) و يذهب أنصار هذا المبدأ إلى أن الإرادة لها السلطان الأكبر في تكوين العقد و في الآثار التي تترتب عليه، بل في جميع الروابط القانونية ولو كانت غير تعاقدية. ولا يقتصر تطبيق هذا المبدأ على مضمون العقد، وإنما يمتد – في حدود معينة – إلى تحديد القانون الواجب التطبيق على العقد.

يسري على الالتزامات التعاقدية شكلاً و موضوعاً قانون الدولة التي يوجد فيها الموطن المشترك للمتعاقدين، فإذا اختلف الموطنان يسري قانون الدولة التي تم فيها العقد ما لم يتفق المتعاقدان أو يبين من الظروف أن قانوناً آخر هو المراد تطبيقه.

تحديد الحقوق والالتزامات: يتمتع المتعاقدون بحرية تحديد مضمون العقد، من حقوق والتزامات، بما يتلاءم مع طبيعة الالتزام والغاية منه.

تعديل أو إنهاء العقد بالتراضي: إذا رأى الطرفان مصلحة في تعديل بنود العقد أو إنهائه، فإن سلطان الإرادة يمنحهما الحق في ذلك، ما لم يكن هناك نص قانوني آمر يمنع التغيير.

القواعد الآمرة

تُعرف القواعد الآمرة بأنها القواعد التي تُلزم الكافة باحترامها فلا يجوز مخالفتها أو الاتفاق على استبعادها، ومن الأمثلة على القواعد الآمرة: القاعدة التي تُحرم القتل و القاعدة التي تُلزم البائع بتسليم المبيع إلى المشتري.وهناك قواعد آمرة في التشريع التجاري على ضرورة ذكر لفظ (حوالة تجارية) مكتوباً على متن الورقة و باللغة التي كُتبت بها، وأن تكون غير معلقة على شرط أداء مبلغ معين من النقود، واسم من يؤمر بالأداء و مكان الأداء (المادة 40/ أولاً ثانياً ثالثاً رابعاً خامساً) قانون التجارة رقم 30 لسنة 1984.

وهناك قواعد مكملة و المفسرة، فهي تُعرف بأنها القواعد التي يجوز للأفراد الاتفاق على استبعاد تطبيقها أو الاتفاق على خلاف حكمها. فهي تطبق في حالة لم يتفق المتعاقدان على مخالفة حكمها أو سكتوا عن الإشارة إلى موضوعها، فإذا وجد الاتفاق على مخالفة حكمها كانت العبرة بالاتفاق لأن الإرادة الحقيقية للأفراد أولى بالاتباع من إرادتهم المفترضة، ويلاحظ أن المشرع يسترشد عند وضعها بالعدالة و العرف و المقتضيات العلمية.

معيار التمييز بين القواعد الآمرة والمكملة والمفسرة

1. المعيار المادي أو الشكلي أو اللفظي: يعني أن تتضمن القاعدة لفظاً يصرح بطبيعتها الآمرة أو بكونها مكملة أو مفسرة للإرادة، فتعتبر القاعدة آمرة إذا أصيغت صيغة الأمر أو النهي، كاستعمال لفظ "يجب" أو "يلزم" أو "لا يجوز"، أو يرد في القاعدة نص يقضي ببطلان ما يخالفها من اتفاق، وقد تُصرح القاعدة بأنها مكملة أو مفسرة أو بصياغتها في صيغة الجواز أو بالنص فيها جواز مخالفتها.

2. المعيار المعنوي أو الموضوعي: يعني معنى النص وفحواه، إذا لم تُصرح النصوص بنوع القواعد التي تتضمنها، فإذا أفاد معنى النص أن القاعدة التي يضمنها لا يجوز الاتفاق على مخالفتها أو استبعادها كانت قاعدة آمرة، وإذا أفاد غير ذلك كانت قاعدة مكملة أو مفسرة للإرادة. ينبغي الاستهداء دائمًا بنوع المصلحة التي تتصل بها الرابطة التي تحكمها القاعدة القانونية لمعرفة ما إذا كان اتباع القاعدة واجبًا أو كانت مخالفتها جائزة.

الغاية من القواعد الآمرة

حماية النظام العام والأخلاق:

ورد مصطلح النظام العام في مواضع كثيرة في القانون المدني العراقي، وقد تجنب المشرع العراقي تعريف النظام العام وأورد أمثلة عليه فقط. والواقع أنه لا يوجد تعريف جامع دقيق لفكرة النظام العام، لكن هناك تعريفات فقهية قد يعتبرها البعض أفضل من سابقاتها، وهي: مجموعة المصالح الأساسية للجماعة والأسس التي يقوم عليها كيان المجتمع سواء كانت هذه المصالح والأسس سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو أخلاقية، والتي يعرض الإخلال بها كيان المجتمع إلى التصدع والانهيار.

وفكرة النظام العام نسبية من حيث نطاقها ومن حيث ثباتها، فهي تتفاوت باختلاف أنظمة الحكم والتيارات الفكرية السائدة في المجتمع، كما أنها فكرة مرنة يتفاوت مداها بتفاوت الزمان والمكان.

ما يعتبر من النظام العام في مجتمع قد لا يكون كذلك في مجتمع آخر، وما يُعتبر مخالفاً للنظام العام في المجتمع الإسلامي، مثل تعهد الزوج بعدم الزواج بأكثر من واحدة، يعتبر باطلاً، بينما قد يُسمح به في دول غربية.

 

ويرى الفقه المعاصر أن قواعد القانون العام، وقواعد الأحوال الشخصية، وبعض قواعد الأحوال العينية، مثل القواعد المتعلقة بالتصرفات القانونية والاقتصادية، وقواعد حماية الطرف الضعيف في التعاقد (كالقاصر)، وتنظيم الملكية وحماية الغير، تعتبر قواعد آمرة.

لذلك، يجب إبطال كل اتفاق يخالف النظام العام والآداب، سواء وُجدت قاعدة آمرة تنظم الأمر أم لا.

أمثلة في القانون المدني العراقي

المادة 132/1 مدني: يكون العقد باطلاً إذا التزم المتعاقدون دون سبب أو لسبب ممنوع قانونًا ومخالف للنظام العام أو للآداب.

المعنى: يشترط المشرع وجود سبب مشروع للتعاقد، وهو الغرض الذي يرمي إليه الطرفان من خلال الاتفاق. فانتفاء هذا السبب، أو قيامه على غرض غير مشروع، يترتب عليه بطلان العقد بطلانًا مطلقًا.

 

المادة 259/3 مدني: يقع باطلاً كل شرط يقضي بالإعفاء من المسؤولية المترتبة على العمل غير المشروع.

المعنى: هذا النوع من الشروط يتعارض مع النظام العام، لأن السماح به يعني إعفاء الأشخاص من الالتزام باحترام القانون والحقوق الأساسية للغير.

ويرى المشرع أن الحق في التعويض عن الأضرار حق لا يمكن التنازل عنه مسبقًا إذا كان ناشئًا عن عمل غير مشروع.

بين الحرية والقيود في صياغة العقود

يُعد مبدأ سلطان الإرادة من الركائز الأساسية في الفقه المدني، إذ يمنح الأطراف حرية التعاقد من حيث اختيار المتعاقد الآخر، وتحديد موضوع العقد، وتقرير شروطه.

غير أن هذه الحرية ليست مطلقة، بل ترد عليها قيود تفرضها القواعد الآمرة التي يضعها المشرّع لحماية النظام العام والمصلحة العامة.

فالقواعد الآمرة تمثل حدودًا لا يجوز للأطراف تجاوزها أو الاتفاق على مخالفتها، وإلا عُدّ العقد أو الشرط باطلًا بطلانًا مطلقًا.

ومن ثم، يتعين عند صياغة العقود أن تُراعى هذه الحدود، بحيث يتمكن الأطراف من تنظيم شؤونهم بحرية دون المساس بالمبادئ القانونية الملزمة.

دور المحامي في حماية مصالح الأطراف دون مخالفة القوانين

يؤدي المحامي دورًا محوريًا في ضمان توافق العقود مع القواعد الآمرة، فهو المسؤول عن مراجعة بنود العقد والتحقق من مطابقتها للنصوص القانونية الإلزامية، فضلًا عن ابتكار حلول قانونية تحقق مصالح موكله ضمن الإطار المشروع.

كما يحرص على صياغة البنود بطريقة دقيقة تضمن التوازن بين حقوق والتزامات الأطراف، وتقلل من فرص النزاع أو البطلان.

إلى جانب ذلك، يقوم المحامي بتوضيح المخاطر القانونية المترتبة على بعض الاتفاقات، مما يعزز من وعي الأطراف ويحد من مخالفتهم للقانون، ويضمن في النهاية أن العقد يُبرم في إطار من المشروعية والفعالية القانونية.

تم نشره بتاريخ الاثنين 8 سبتمبر 2025 في الساعة 5:00 مساءً


أحدث أقدم