بقلم:الحسن ضياء نجم
المقدمة:
نتيجةً لما يواكب مسيرة الإنسان من تطورات و تغير في
الأحوال لا سيما الثورة الرقمية و ما أفرزته من إيجابيات و مساوئ، فالمشاكل و
الآفات لا تتوقف عن الظهور، متحديةً النصوص و القوانين القائمة، فتثار التساؤلات عن
مدى إمكانية الصمود بوجه هذه الأزمات مستندين إلى المخزون التشريعي فحسب.
لعل النظم الجنائية -و منها النظام
العراقي- من أكثر المعنيين، لوقوعها في معضلة حقيقية يحتمها مبدأ الشرعية الجزائية.
فالمبدأ القاضي بعدم تجريم أي فعل أو معاقبته إلا بنصٍ صريح، يفهم منه أن ما يدور
خارج النص مباح. بالتالي فإن محاولة إسقاط ما هو موجود من النصوص على كل ما يستحدث
من الوقائع و الأحوال مسألة فيها نظر، و ذلك لقدم النصوص القانونية و عدم قدرة
بعضها على مواكبة إفرازات عصر التكنولوجيا. و أبرز مثال على ذلك هو المخدرات
الرقمية[1]، التي
تكشف قصور التعريفات القانونية المعمول بها في العراق في ظل مبدأ الشرعية الجزائية.
ما هو مبدأ الشرعية الجزائية؟
هو مبدأ لا غنى عنه عند التطرق إلى قانون
العقوبات و النظم الجنائية. فهو يشكل عماد القوانين العقابية الحديثة. تَكون هذا
المبدأ في رحم الثورة الفرنسية لينطلق بعدها إلى أرجاء العالم ليأخذ مكانته ضمن
المبادئ القانونية. حيث أن الأمر قبل المناداة بهذا المبدأ كان متروكًا للقاضي،
فلم تكن الجرائم مبينة على وجه الحصر، و لم يكن العقاب محددًا بنصوص و لوائح. يمثل
هذا المبدأ فاصلًا و حَدًا صارمًا للحرية الفردية، فلا مساءلة ولا عقاب على ما
يصدر أو لم يصدر من الفرد ما لم يكن مدرجًا في نص قانوني عقابي. و مبدأ الشرعية،
هو مبدأ لحماية الأفراد من تعسف القضاة و غيرهم من السلطات، و يترتب عليه نتائج في
غاية الأهمية، منها أنه لا عقاب على فعل أو ترك إلا إذا كان هناك قانون يحرم ذلك
الفعل أو الترك. كما أنه لا يجوز للقاضي أن يوقع عقوبة إلا بمقتضى نص قائم، فلا
يحكم وفقًا لأهوائه أو تقديراته الخاصة، فيُعدّ ما قام به المتهم جريمةً في نظره،
كما أنه ليس له الاستعانة ببعض الأدوات التي يستعين بها القاضي المدني كالقياس، و
العرف، و الاجتهاد و غيرها من الأدوات في حال غياب النص، فلا يملك إلا الحكم
بالبراءة.
مبدأ الشرعية في العراق:
ورد هذا المبدأ في صميم الدستور العراقي
الدائم لعام 2005 في المادة (19/ثانيًا)، حيث نص على:" لا جريمة ولا عقوبة
إلا بنص...". كما ورد في المادة (1) من
قانون العقوبات العراقي رقم 111 لعام 1969، حيث نصت: "لا عقاب على فعل أو
امتناع إلا بناء على قانون ينص على تجريمه". حيث تمثل هذه القاعدة ضمانة
أساسية للحقوق و الحريات. و على الرغم من أهمية هذا المبدأ إلا أنه يُرتب صعوباتٍ
عدة عند مواجهة الأفعال المستحدثة و التي لم يتناولها المشرع بنص محدد، كما في
المخدرات الرقمية.
لماذا يعد تعريف المخدرات في القانون العراقي قاصرا؟
لا بد من الإشارة إلى أن أغلب التشريعات
الجزائية عند تعريفها للمخدرات و المؤثرات العقلية تتبع آلية متشابهة، حيث ترفق
جداول تحتوي على المواد و التراكيب المخدرة المتفق عليها في الاتفاقية الوحيدة
للمخدرات لعام 1961، فيتم تعريفها على إنها مما ذُكر في الجداول المتفق عليها من
موادٍ أو تراكيب. فعلى سبيل المثال، يُعرف القانون العراقي للمخدرات و المؤثرات
العقلية رقم 50 لسنة 2017 كُلًا من المخدرات و المؤثرات العقلية في نص المادة
(1) على أنها "كل مادة طبيعية أو تركيبية من المواد المدرجة في الجداول".
و هذا الأسلوب قد يضمن الدقة، لكنه غير مرن أمام سرعة ظهور مركبات جديدة، وهو ما
يجعل النظام الجنائي متأخرًا عن مواكبة الواقع.
التحديات المتوقعة:
بعد أن أشرنا لما يوفره مبدأ الشرعية من
ضمانٍ للأفراد و قيد على القاضي، فإن المشكلة تبدو جلية حيث أن حُكم القاضي يدور
وجودًا و عدمًا مع وجود النص. إذ أن تصور احتمال أن تكون النصوص القانونية، و
خصوصًا تلك التي تتعلق بتعريف المخدرات و المؤثرات العقلية، قد أحاطت بكل ما هو
ممكن، بات ضربًا من المحال و ذلك لقدم النصوص القائمة في مواجهة ما يحدث من
الأحوال لا سيما في عصر العالم الرقمي. نتيجةً لذلك فإن أبرز التحديات تتمثل
بأمرين بالغي الأهمية. الأول: هو الفراغ
التشريعي، فعندما تظهر مادة جديدة غير مدرجة في الجداول فإنه لا يمكن للسلطات
المعنية أن تباشر دورها في تجريم التعاطي أو الترويج لتلك المواد، لمعارضة ذلك
لمبدأ الشرعية. أما الثاني: فهو استغلال
الثغرات من قبل الشبكات الإجرامية لتصنيع و استيراد مواد ذات تأثيرات مماثلة
للمخدرات المعروفة، لكن غير مشمولة في الجداول، و هذا ما سيعيق فرصة ملاحقتها
قانونا.
إن القصور في التعريف التشريعي يؤدي إلى
تعقيد عمل القضاء، المقيد بمبدأ الشرعية الذي يحتم عليه عدم التوسع أو الخروج عن
اطار التعريفات القانونية. و بذلك تنشأ معضلة حقيقية بين احترام مبدأ الشرعية،
الذي يعد عنصرًا محوريًا للعدالة، و بين الحاجة الواقعية و المُلحة لحماية المجتمع
من الأخطار المتنامية للمخدرات.
الحلول الممكنة في التشريع العراقي:
لعل أول الاقتراحات و أهمها هو توسيع نطاق التعريف التشريعي.
فبدلًا من حصر المخدرات في قائمةٍ مغلقة يمكن للمشرع أن يتبنى تعريفًا شاملًا يجرم
المواد التي تحدث تأثيرًا نفسيًا أو عقليًا. و لا بأس بالإبقاء على الجداول
كمؤشرات توضيحية لا حصرية. أما الاقتراح الثاني فيتمثل باتباع
آلية سريعة لتحديث الجداول، وذلك بقيام لجنة الصحة النيابية بتقديم تعريف دقيق
وشامل للمادة المخدرة والمؤثرة عقليًا، مع إمكانية الاستعانة بالخبراء في هذا
المجال. ثم تُعرض النتائج على اللجنة القانونية في مجلس النواب لإضفاء الصبغة
القانونية على التعريف المقترح، وصولًا إلى صيغة نهائية تُناقش ويصوّت عليها. كما يمكن أن تتولى الهيئة الوطنية العليا لشؤون المخدرات
والمؤثرات العقلية، أو وزير الصحة، مهمة تحديث الجداول أو إعداد مشروع قانون جديد
بما يتناسب مع متطلبات العصر. ثالث الاقتراحات هو أن يتخذ المشرع العراقي معيار الوظيفة
التي تؤديها المادة إضافة للمادة ذاتها، حيث يتم النظر إلى الأثر و تحققه، و هل هو
نفسه المترتب على تعاطي المخدرات المتعارف عليها، حتى لو لم تكن المادة مطابقة
كيميائيًا أو تركيبيًا للمادة المدرجة.
خاتمة:
يتضح أن التشريع العراقي، و رغم الشوط الكبير
الذي قطعه في عملية مكافحة المخدرات، إلا إنه ما زال يعاني قصورًا في استيعاب
الأنماط المستحدثة أو ما قد يستحدث مستقبلًا. كما أن مبدأ الشرعية، على ضرورته، لا
ينبغي أن يكون عائقًا أمام تطوير آليات قانونية أكثر مرونة. و هذه فرصة ليتولى
العراق زمام المبادرة في الدعوى إلى إعادة النظر في اتفاقية المخدرات و تعديلها
بما يلائم مقتضيات العصر.
[1] المخدرات الرقمية: مسارات صوتية رقمية يعتقد
بأنها تثير حالات وعي مضطربة أو تحدث تأثيرات عقلية و عاطفية متقلبة و مختلفة، و أن
تأثيرها يشبه تأثير المخدرات الفعلية (المادية) غير المشروعة، حيث أن هذه الأصوات
الرقمية تنقل عبر سماعات ذات مواصفات خاصة توضع على الأذنين فيحاول الدماغ توحيد
الترددات المتباينة التي يتلقاها عبر الموجات الصوتية فتنتج عن ذلك موجة ثالثة أو
نغمة ثالثة، الأمر الذي يجعل الدماغ يحفز خلايا عصبية معينة لإفراز هرمونات
متفاوتة الأثر على نفسية المستمع و حسب الحالة التي يبتغيها.
