التعدد في الجرائم: هل العقوبة تتعدد أم تدمج أم تتداخل؟

 بقلم: بنين قصي مهدي

في بادئ الامر لابد لنا من التعرف على المقصود من التعدد في الجرائم، هو الحالة التي يرتكب فيها الجاني أكثر من جريمة قبل أن يُفصل في أي منها بحكم قضائي بات، سواء أكانت هذه الجرائم ناشئة عن أفعال مادية متعددة، أم عن فعل واحد ترتبت عليه عدة أوصاف جرمية.

 

‏وتعد مسألة تعدد الجرائم من الموضوعات الدقيقة في القانون الجنائي، إذا تثير هذه المسألة إشكالية جوهرية تتعلق بكيفية معاقبة الجاني إذا ارتكب أكثر من جريمة فيثار التساؤل التالي: هل يحاسب الجاني على كل جريمة بعقوبة مستقلة أم هل تدمج ام تتداخل العقوبات في عقوبة واحدة؟

ولابد لنا من ايضاح الفرق بين كل من حالات العقوبة الثلاثة السابقة

فالحالة الاولى وهي العقوبة المستقلة عن كل جريمة مرتكبة، تعني ‏الجاني يعاقب بشكل مستقل عن كل جريمة ارتكبها، فلو ارتكب الجاني جريمتين (سرقة وقتل) يعاقب عن كل من الجريمتين بعقوبتين مستقلتين

اما حالة الدمج في العقوبة فيعني الحكم على الجاني بأكثر من عقوبة ولكن تنفذ عليه العقوبة الاشد، كأن يحكم عليه بعقوبة عن كل من القتل والسرقة ولكن ينفذ عليه عقوبة القتل فقط

اما عن حالة التداخل فيعني ان الجاني لا يحكم عليه ولا ينفذ عليه الا العقوبة الاشد.

 

‏وهذه الإشكالية فرضها واقع عملي، تتعدد فيه الأفعال الاجرامية وتختلف طبيعتها وأزمانها، مما يستلزم من المشرع وضع قواعد توازن بين تحقيق الردع والعدالة من جهة، وبين منع القسوة أو المغالات في العقوبة من جهة اخرى فالقانون يسعى دائماً لصياغة معادلة دقيقة بين الردع والإنصاف

فبرز تساؤل: هل الأصل أن تتعدد العقوبات بتعدد الجرائم أم أن القانون يميل إلى مبدأ الدمج او التداخل والاكتفاء بعقوبة واحدة؟

وللاجابة عن هذا التساؤل كان لابد من التميز بين صور التعدد في الجرائم، فعددت ينقسم إلى ثلاثة صور وهم كالاتي

 

‏التعدد الصور أو التعدد المعنوي، التعدد الحقيقي المرتبط ‏ووحدة الغرض (المرتبط ارتباطاً لا يقبل التجزئة )، والتعدد الحقيقي غير المرتبط بوحدة الغرض. وسنوضح كل صورة فيما بعد

 

-التعدد المعنوي او الصوري

‏التعدد المعنوي أو التعدد الصوري هو الذي تتعدد فيه النتائج جرمية ولكن تكون ناتجة عن فعل إجرامي واحد مثلا لو قام شخص بإطلاق النار فقتل شخصاً وتسبب بأيذاء شخص آخر بنفس الرصاصة، فالنتائج الجرمية (القتل والأيذاء) ترتبت عن فعل إجرامي واحد (وهو إطلاق النار)

 

-التعدد الحقيقي المرتبط  بوحدة الغرض

‏هو الذي تتعدد فيه الأفعال الاجرامية وتعدد فيه النتائج الجرمية، ولكن هذه الأفعال تكون مرتبطة ارتباطاً لا يقبل التجزئة. أي تكون مرتبطة بوحدة الغرض، فيكون أحد هذه الأفعال قد ارتكب لتسهيل الأفعال الأخرى أو للتستر عن الأفعال الأخرى. كما لو قام شخص بالدخول إلى منزل لغرض السرقة وارتكب جريمة قتل للتستر على جريمة السرقة. فهنا تعددت الأفعال الاجرامية ولكن ارتبطت ارتباطاً لا يقبل التجزئة، فبدون جريمة السرقة لما ارتكبت جريمة القتل.

 

-التعدد الحقيقي غير المرتبط بوحدة الغرض

‏هو الذي تتعدد فيه الأفعال الاجرامية وتتعدد فيه النتائج الجرمية ويكون كل فعل من هذه الافعال مستقل عن الآخر، أي أن هذه الأفعال لا ترتبط ببعضها بوحدة الغرض. فكل فعل منها يرتكب لغراض مستقل عن الأفعال الأخرى، كما لو قام شخص بارتكاب جريمة سرقة وعقبها بجريمة تزوير وبعدها قام بارتكاب جريمة قتل فهذه الأفعال لا ترتبط ببعضها من حيث الغرض، فلذلك هذا التعدد يسمى تعدد قابلاً للتجزئة غير مرتبط بوحدة الغرض.

 

‏وبعد أن تطرقنا إلى صور التعدد في الجرائم سننتقل للإجابة على التساؤل المذكور آنفاً الا وهو

‏هل الأصل أن تتعدد العقوبات بتعدد الجرائم أم أن القانون يميل إلى مبدأ الدمج او التداخل والاكتفاء بعقوبة واحدة؟

 

‏تختلف العقوبة التي يعاقب بها المجرم في حالة التعدد بحسب اختلاف صورة التعدد في الجرائم وعلى النحو الآتي:

-        ‏إذا كان التعدد معنوي أو صوري، أي أن الجرائم ناتجة عن فعل واحد فإن المتهم لا يحاكم ولايعاقب إلا عن جريمة واحدة وبعقوبة وهي عقوبة الجريمة الأشد (اي ان العقوبات تتداخل) كما في المثال المذكور سابقا (وهو حالة قيام الشخص إطلاق النار وقتله لآخر وإصابة شخص آخر فأن المجرم سيعاقب عقوبة واحدة عن جريمة واحدة (جريمة القتل كونها العقوبة الأشد).

-        ‏في حالة التعدد الحقيقي المرتبط بوحدة الغرض والمسمى بالتعدد الحقيقي الذي لا يقبل التجزئة، فهنا المتهم سيدان عن جريمتين ولكن ستنفذ عليه عقوبة واحدة وهي عقوبة الجريمة الأشد (اي ان العقوبات تدمج) كما هو الحال في مثال القتل لغرض التستر على جريمة السرقة فهنا المتهم سيدان عن كلا الجريمتين (القتل والسرقة) ولكن سيعاقب بعقوبة الجريمة الأشد فقط.

‏والغرض من تطبيق العقوبة الأشد هو لتحقيق العدالة دون مغالاة وتجسيداً لمبدأ التناسب في العقوبة، أي أن العقوبة يجب أن تكون متناسبة مع الجريمة المرتكبة وأيضا لتخفيف العبء القضائي والتنفيذي، أي لتجنب التعقيد عند تنفيذ العقوبة.

-        ‏في حالة التعدد الحقيقي غير المرتبط بوحدة الغرض والمسمى بالتعدد الحقيقي القابل للتجزئة، ففي هذه الصورة من التعدد إن المتهم سيعاقب عن كل الجرائم التي قام بارتكاب أي ستنفذ عليه عقوبات جميع الجرائم المرتكبة من قبله، وذلك يكون بالتتابع، على ان لا تزيد مدة العقوبات عن ٢٥ سنة كما هو الحال في مثالنا السابق، فان المتهم سيدان عن جريمة السرقة وعن جريمة التزوير وعن جريمة القتل وستنفذ عليه جميع العقوبات وذلك بالتتابع على أن لا تزيد مجموع هذه العقوبات على ٢٥ سنة.

تم نشره يوم الخميس بتاريخ 16 اكتوبر 2025 في الساعة 5:00 مساءً


أحدث أقدم