قد
يُثار التساؤل حول مدى إمكانية مُسألة الشخص المعنوي جنائياً وهل هذا الأخير
يُسائل بالطريقة ذاتها المتبعة في مواجهة الشخص الطبيعي ؟ للإجابة على هذه
التساؤلات ينبغي لنا أولا الإشارة إلى ان مسؤولية الشخص المعنوي تختلف وبشكل جذري
عن نطاق المسؤولية الجزائية الخاصة بالأشخاص الطبيعيين ؛وذلك يعود لعدة أسباب
وعوامل تمنع من تطبيق المسؤولية الجزائية ذاتها المقررة للاشخاص الطبيعية على
الشخص المعنوي ،اذ يتمتع الأخير بخصوصية تجعل من ارتكابه لبعض الجرائم أو تنفيذ
بعض العقوبات عليه أمر مستحيل . فمن غير المعقول
ارتكاب الشخص المعنوي لجريمة قتل مثلا حيث أن هذه الأخيرة لا يتصور وقوعها إلا من
شخص طبيعي ،ومن جهة أخرى فلا يمكن تصور فرض العقوبات السالبة للحرية على الشخص
المعنوي كون هذا الأخير لا يتمتع بكيان مادي .
وعليه وللحديث أكثر
عن تلك المسؤولية وخصوصيتها بالنسبة للأشخاص المعنوية كان لابد لنا من التعرف على
المحاور الآتية:-
- مفهوم مبسط عن الشخص المعنوي // المسؤولية الجزائية
.
- الأسباب والتحديات التي تحد من إمكانية
تطبيق المسؤولية الجزائية بشكلها الكامل على الشخص المعنوي .
- أنواع الجرائم والعقوبات المقررة على
الشخص المعنوي .
- موقف قانون العقوبات العراقي من
الشخصية المعنوية .
أولاً
: مفهوم مبسط عن الشخص المعنوي // المسؤولية الجزائية
1-
الشخص المعنوي
هو
مجموعة من الأموال كما هو الحال في الشركات والمؤسسات أو مجموعة من الأفراد كما في
الجمعيات تهدف لتحقيق غرض معين تمنح الشخصية القانونية بالقدر الذي يساعدها على
تحقيق ذلك الهدف؛
وعليه
فالشخص المعنوي هو مخلوق قانوني محدود الشخصية حيث تُمنح هذه الأخيرة له بالقدر
الذي يمكنه من اكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات الناشئة من ممارسته لنشاطه . ومن
المؤكد أن هذه الشخصية تتصف بنطاق ضيق مقارنة بالشخصية القانونية الممنوحة للشخص
الطبيعي ،حيث أن هذه الاخيرة لا يحد من نطاقها سوى الأمور المتعلقة بالأهلية .
2-
المسؤولية الجزائية
المسؤولية
وحدها تعني تحمل الشخص للعواقب التي تترتب على فعله الغير مشروع ،والمسؤولية الجزائية لا تخرج عن هذا المفهوم
فهي تفرض على الأشخاص الذين ياتون بعمل غير مشروع في نطاق القانون الجنائي ويكون
العمل غير مشروع إذا كان مخالفا لنصوص القانونية الجزائية . وبعبارة
أكثر تفصيلاً فإن المسؤولية الجزائية تتحقق إذا توفرت العناصر الثلاثة الآتية:-
أ-
وجود نص قانوني
إذ
لا يمكن فرض المسؤولية الجزائية على شخص قام بفعل لا يجرمه نصاً قانونيا وان كان
هذا الفعل يشكل اعتداء إذ أن المسؤولية الجزائية لا يمكن إثارتها إلا عند التجاوز
على نص قانوني ثابت الوجود احتراما لمبدأ الشرعية المعتمد في القوانين الجزائية .
ب- مخالفة النص القانوني
سواء
اكانت هذه المخالفة ناتجة عن تعمد أو إهمال من الشخص اذ يعد في كلا الحالتين
مسؤولا من الناحية الجزائية.
ج- توافر الأهلية اللازمة
إذ
يجب أن يكون الشخص قد أتم التاسعة من العمر وغير مصاب بعارض من عوارض الأهلية التي
تنفي المسؤولية كالأكراه او الجنون او السكر ،وبخلافه أي إذا كان الشخص دون سن
العاشرة أو كان مصاب بأحد عوارض الأهلية فلا يكون مسؤولاً جنائياً .
وبهذا
،يكون الشخص مسؤولاً جنائياً عند اجتماع هذه العناصر الثلاثة وأي إخلال في أحدها
يؤدي إلى نفي المسؤولية .
ثانياً
:الأسباب والتحديات التي تحد من إمكانية
تطبيق المسؤولية الجزائية بشكلها الكامل على الشخص المعنوي
هناك
العديد من الأسباب والعوامل التي من شأنها الحد من مسؤولية الشخص المعنوي يمكننا
ايجازها بالنقاط الآتية: -
1-
الحداثة النسبية لنظرية الشخصية المعنوية
من
المعلوم أن النظرية الخاصة بمنح الشخصية المعنوية هي نظرية مستحدثة ولا تزال
تفاصيلها محل اختلاف بين الفقهاء، ،مما رمى أثره وبشكل غير مباشر على نطاق مسؤولية
تلك الشخصية .
2-
عدم تمتع الشخص المعنوي بكيان مادي
أن
الشخص المعنوي هو مجرد شخص اعتباري لا كيان مادي له، فهو مجرد كائن يستمد وجوده من
القانون حيث أن هذا الأخير هو من افترضه لتسهيل التعاملات والإجراءات المختلفة، .وعليه
ونتيجة لذلك فلا يمكن ان تكون نطاق المسؤولية الجزائية في مواجهته متكاملة , فهناك
بعض الجرائم كالجرائم الإنسانية التي لا يمكن للشخص المعنوي أن يرتكبها إذ تتطلب
تلك الجرائم وجود شخص طبيعي يقوم بها والامر نفسه ينطبق على بعض العقوبات
كالعقوبات السالبة للحرية وكما أشرنا سابقاً .
3-
عدم تمتع الشخص المعنوي بملكة الشعور
من
المعروف أن الهدف من المسؤولية هو دفع الجاني للشعور بالذنب ومنع الافراد من القيام
بأي عمل غير مشروع أي تحقيق الردع الخاص والعام .وقد يكون هذا الأمر
صعب التحقيق بالنسبة للشخص المعنوي الذي لا يملك ما يدفعه للشعور بالذنب من الأصل
؛الامر الذي دفع ببعض الفقهاء إلى الدعوة للحد من نطاق مسؤوليته .
4-
الصعوبة في التفرقة بين إرادة الشخص المعنوي وإرادة
ممثليه
كما
أوضحنا مسبقا أن الشخصية المعنوية هي مجرد افتراض نص عليه القانون لتيسير
المعاملات . وهذه الشخصية لابد أن يكون لها ممثل
وهذا الممثل يكون عبارة عن شخص طبيعي له صلاحية اتخاذ القرارات باسم الشخص المعنوي
. ان وجود هذا الممثل سيؤدي إلى صعوبة في
التفرقة بين إرادة الشخص المعنوي وإرادته ؛مما يجعل أمر استقلال مسؤولية الشخص
المعنوي عن ممثله صعب للغاية .
ثالثاً
: أنواع الجرائم والعقوبات المقررة على
الشخص المعنوي
1-
الجرائم ومدى إمكانية تصور وقوعها من الشخص المعنوي
الشخص المعنوي لا يستطيع ارتكاب العديد من
الجرائم من أهمها ما يدعى بالجرائم الواقعة على الأشخاص والتي تشمل، جرائم القتل ،
الإيذاء بمختلف أشكاله ،الاغتصاب وغيرها من تلك الجرائم المذكورة في الباب الثالث
من قانون العقوبات العراقي رقم (111)
لسنة (1969) المعدل . وفي
مقابل ذلك فإن الشخص المعنوي يستطيع ارتكاب اغلب الجرائم الواقعة على الأموال
،كجرائم النصب والاحتيال، غسيل الأموال، التهرب الضريبي .فضلا عن إمكانية
ارتكابه لجرائم ضد البيئة كجرائم التلوث البيئي الناجم عن ممارسة الشخص المعنوي
لأنشطته . هذا إلى جانب إمكانية ارتكاب الشخص
المعنوي للعديد من الجرائم المعلوماتية كجريمة اختراق الأنظمة المعلوماتية،
،انتهاك الخصوصية ،سرقة معلومات …
ومن الممكن أن يعد
الشخص المعنوي طرفاً في جرائم انتهاك الملكية الفكرية وذلك حين يتم مثلا استخدام
علامات تجارية محمية .وأيضا قد يساهم الشخص المعنوي في تمويل
حركات إرهابية وبالتالي يعتبر متورطاً في جرائم ارهابية .
2-
العقوبات التي يمكن فرضها على الشخص المعنوي
عادة
ما تفرض عقوبات مالية على الشخص المعنوي كالغرامة والمصادرة. فهذه
العقوبات يمكن فرضها بشكل يسير على الشخص المعنوي ؛حيث إن هذا الأخير يتمتع بذمة
مالية مستقلة مما يُمكن تنفيذ العقوبة بشكل خاص عليه .
ومن الطبيعي أن
باقي العقوبات المقررة في القوانين الجزائية كالإعدام ،السجن ،الحبس لا يمكن
إيقاعها على الشخص المعنوي ؛كون هذا الأخير يفتقر إلى الوجود الطبيعي اللازم
لتنفيذ تلك العقوبات .
رابعا: موقف
قانون العقوبات العراقي من الشخصية المعنوية
عالج
المشرع العراقي مسألة الأشخاص المعنوية في المادة (80) من قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة ( 1969) المعدل ،حيث نصت : (الأشخاص المعنوية،
فيما عدا مصالح الحكومة ودوائرها الرسمية وشبه الرسمية مسؤولة جزائياً عن الجرائم
التي يرتكبها ممثلوها او مديروها او وكلاؤها لحسابها او بإسمها.
ولا
يجوز الحكم عليها بغير الغرامة والمصادرة والتدابير الاحترازية المقررة للجريمة
قانوناً، فإذا كان القانون يقرر للجريمة عقوبة أصلية غير الغرامة أبدلت بالغرامة
ولا يمنع ذلك من معاقبة مرتكب الجريمة شخصياً بالعقوبات المقررة للجريمة في
القانون) . وبهذا نجد أن
المشرع العراقي قد أقر وبشكل صريح بالمسؤولية الجزائية للشخص المعنوي كما وحدد
العقوبات التي يمكن تطبيقها عليه . وبين إمكانية فرض
التدابير الأحترازية على الشخص المعنوي وخصة بعض التدابير بهذا الأخير ،اذ ذكرت المادتين
(122 ، 123) إمكانية وقف أو حل
الشخص المعنوي كتدبير احترازي يُفرض عليه .إذ يمكن للمحكمة
وقف نشاط الشخص المعنوي لمدة لا تتجاوز الثلاث سنوات كما ويمكن لها ايضاً حل الشخص
المعنوي أي الأمر بتصفيته .
إن
موقف المشرع هذا يعد جيد جدا، إلا أنه قد لا يغطي بعض الأفعال الصادرة من الشخص
المعنوي إذ يوجد بعض التجاوزات الصادرة عن هذا الأخير غير مذكورة في قانون
العقوبات وخصوصا ما يتعلق بالمجال الرقمي،؛ من ما يؤدي إلى عدم مسألته استناداً
لمبدأ الشرعية الجزائية .
وعليه،
يصبح من الضروري أن يلتفت المشرع العراقي لهذا الموضوع، لاسيما أن الأشخاص
المعنوية أصبحت تمارس نشاطات واسعة ومتنوعة، مما يزيد من احتمالية ارتكابها
لمخالفات أو تجاوزات قانونية مختلفة . ويتطلب ذلك وضع
إطار تشريعي واضح يدرج فيه أنواع الجرائم المستحدثة التي يمكن أن يرتكبها الشخص
المعنوي وخصوصا تلك المتعلقة بالجانب الرقمي، بما يضمن تحقيق الردع القانوني
وحماية المصلحة العامة، ومواكبة التطورات الحديثة التي توصلت لها القوانين
المقارنة .
تم نشره بتاريخ 8/ ديسمبر/2025 المصادف يوم الاثنين في الساعة 5:00 مساءً.
.png)